العمل الخيرى فى المجتمعات المُـتحضرة لم يعتمد على الدعاية.. وإنما على المناخ الثقافى الذى أشاع حب الخير.. والرغبة الصادقة النابعة من الوجدان لمساعدة المُـحتاجين.. ولعلّ هذا هوالسبب الذى نشر ظاهرة تبرع القادرين، سواء فنانين أوأصحاب أعمال إلخ، للمستشفيات والجامعات ومراكزالأبحاث العلمية.. إلخ.
هذا العمل الخيرى الجليل يتم فى صمت ودون دعاية، لا فى التليفزيون ولا فى أية وسيلة أخرى، لأنّ من يـُـقـدّمون المُـساعدات آمنوا بثقافة المُـثل العليا للإنسانية، وهذا الجانب من مـُـنطلق إنسانى بحت، أما الجانب الآخر النابع من هذا الإيمان، فقد استمـدّته المجتمعات المُـتحضرة من ثقافة تعزيز الانتماء للوطن الذى يعيشون على أرضه.. وتلك الثقافة نبعتْ من جذر: إنّ التنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية والتقدم العلمى، لايتم إلاّ بالتضامن الاجتماعى، وتكاتف جميع أبناء الوطن الواحد، وأنّ هذا لن يتحقق إلاّ بالوقوف بجانب كل مواطن يحتاج إلى مساعدة.
ووفقــًـا لقانون: التراكم الكمى يؤدى إلى تغير كيفى، تطورتْ ثقافة مساعدة مواطنى الوطن الأم، إلى ثقافة مساعدة أى إنسان، بغض النظرعن جنسيته أوديانته، ولعلّ هذه النظرة الإنسانية النبيلة.. هى التى تــُـفسر ظاهرة تطوع العلماء الأوروبيين لبحث أسباب الأمراض المُـتوطنة فى أفريقيا وآسيا.. وتعرّضهم للاصابة بالأمراض المُـعدية.. وكذلك "منظمة أطباء بلا حدود" بخلاف المُـنظمات الأهلية العديدة المُـهتمة بحماية البيئة من التلوث.. خاصة مقاومة دفن النفايات النووية فى أراضى الدول الفقيرة.. وفى تسعينيات القرن العشرين نجحتْ المنظمة "فرع فرنسا" منع سفينة مُـحملة بالنفايات النووية.. كانت متجهة إلى أفريقيا.. وهذا النجاح لم يتحقق إلاّ بعد أنْ هـدّد شباب المنظمة بتفجير أنفسهم على سطح السفينة.
وعندما حدث زلزال فى جنوب فرنسا فإنّ الممثل والمغنى "إيف مونتان ـ 1921ـ 1991 "فرنسى من أصل إيطالى" توجه إلى أكثر المواقع تضررًا من الزلزال.. راقبه أحد الصحفيين الموجودين لتغطية آثارالزلزال.. فرآه وهويتعمّـد الابتعاد عن كاميرات المصورين.. خاصة عندما كان يـُـخرج دفتر الشيكات..ويمنح رب كل أسرة شيكــًـا.. ورصده الصحفى وهو ينتقل من خيمة إلى أخرى.. وبعد أيام ظهر التحقيق الصحفى المُـصوّر الذى نقلته معظم وكالات الأنباء.
ولعلّ الفنانة الأمريكية انجيلينا جولى تــُـعتبر نموذجـًـا إنسانيـًـا راقيـًـا، للتدليل على الحس الإنسانى الفطرى المُـفعم "بموهبة العطاء" فهذه الفنانة/ الإنسانة لم تكتف بالتبرع بالمال لضحايا الأمراض والأوبئة والحروب.. وإنما تبنــّـتْ أربعة أطفال أحدهم من كمبوديا وآخر فيتنامى وطفلة أثيوبية.. مع مراعاة أنها أنجبتْ ثلاثة أطفال. وزارتْ مخيمات اللاجئين فى أكثر من عشرين دولة، مثل لبنان والكونغو إلخ. وذكرتْ تقارير كثيرة أنها كانت تــُـخصص ثلث دخلها من السينما للأعمال الإنسانية. وساعدتْ اللاجئين العراقيين لمدة ثمانى سنوات بأكثر من عشرين مليون دولار. ومن أجل ذلك نالتْ جائزة "مواطن العالم" من رابطة المراسلين الصحفيين التابعة للأمم المتحدة عام 2003. وقد شاركها الفنان "براد بيت" فى إنشاء "مؤسسة جولى ـ بيت الخيرية" التى تعمل فى مجال مساعدة ضحايا المجاعات والأزمات الإنسانية.
ومن بين مواقف الفنانة/ الإنسانة انجيلينا جولى أنها رفضتْ الاحتفال بعيد الشكر الذى يـُـعتبرمن الأعياد الرسمية فى أميركا..ولما سألها الصحفيون عن السبب قالت: لأنه اليوم الذى يحتفل فيه "البيض" بالقضاء على حضارة الهنود الحمر سكان أميركا الأصليين ـ (أهرام 29 نوفمبر2010)
وتوجد أسماء كثيرة مثل المغنية الأمريكية اليشا كيز التى أنشأتْ "جمعية رعاية الأطفال" وتبرّعتْ النجمة ساندرا بولوك بمليون دولار لمنظمة "أطباء بلاحدود" لمساعدة جهود الاغاثة فى هاييتى بعد الزلزال المُـدمر فى يناير2010. آآ
ما ذكرته مجرد أمثلة بينما فى أرشيفى الكثير المُـوثق..ورأيتُ أهمية أنْ أنقل للقارىء واقعتيْن شهد عليهما صديقان أثق فى شخصهما: الشهادة الأولى من صديق مصرى يعيش فى أميركا وله صديق أمريكى ذكر له أنه وزّع ثروته على أولاده فمنح كل واحد 3 مليون دولار..فسأله صديقى الذى يعرف أنّ ثروة الأب الأمريكى أكثر من 300 مليون دولار: والباقى؟ قال: تبرّعتُ بهم لمراكزالأبحاث الطبية وللجمعيات الإنسانية.. ومنحتُ أولادى المال وأنا أخشى عليهم من لعنة الحصول السهل بلا مجهود.. وكنتُ أتمنى أنْ يبدأوا مثلى من الصفر.
الشهادة الثانية من صديقى الراحل الباحث فى علم المصريات "لويس بقطر" الذى عاش 22 سنة فى السويد.. ذكر لى أنّ جارته السويدية ذهبتْ إلى الصومال فى أواخر التسعينيات وتبنــّـتْ ثلاثة أطقال.. ورآها وهى تضعهم على المرجيحة فى حديقة منزلها وتــُـناولهم الطعام بيدها، أما المفاجأة فإنّ هذه السيدة لم تكن محرومة من الأطفال لأنها أنجبتْ ثلاثة على قيد الحياة.
***
بسبب ظروف مرضى تعتقلنى ابنتى فى شقتها وتحتجزنى فى السرير لمشاهدة التليفزيون.. وقد أحزننى ما شاهدته من كمية اعلانات التبرع لجمعية كذا ولمؤسسة كذا ولمستشفى كذا ولصالح "صندوق" كذا..وأحزننى أكثر أنّ من يقومون بالدعاية للتبرع بعض الممثلين وبعض أعضاء الكهنوت الدينى..وسبب حزنى: "دماغى اللى عاوز الكسر"عشان شغلنى سؤال: هل لدينا ممثل واحد "واحد فقط" فى نبل الفنان إيف مونتان؟ وهل لدينا ممثلة واحدة "واحدة فقط" فى نبل انجيلينا جولى أو ساندرا بولوك؟ وهذا الحزن يتضاعف عند تذكر ما تنشره الصحف عن أجور الممثلين التى تجاوزتْ رقم المليون بالنسبة للبعض..مع التهرب من دفع الضرائب أوالتلاعب فى الأجر الفعلى وتقديم الأجر الوهمى بالاتفاق مع المنتج.
أما أكثر ما أحزننى: أنّ هذه الدعاية الفجة للتبرع هى إهانة بشعة للدولة المصرية وفضيحة لم تخطر على بال أعداء مصر.. ووفقــًـا لقانون التداعى الحر بدأتْ جرثومة التوجس تتملكنى..فقد تذكــّـرتُ أنه تـمّ ـ منذ سنوات ـ إنشاء بنك فى مصراسمه "بنك الطعام" وهواسم دال على حالة المجاعة التى يـُـعانى منها شعبنا.. فسألتنى نفسى المُـحبة للتساؤل: ألايمكن أنْ تتطور الأمور ليكون فى مصر بنك باسم: "بنك التسول المصرى"؟ وضاعف حزنى أكثر ما كتبه مهاتير محمد الذى قال: إنّ مصرمن أغنى دول العالم، لوتوافرتْ إرادة سياسية لتحقيق العدالة الاجتماعية.
***