08 - 05 - 2025

لماذا هاجم الليبراليون دستور 1923؟

لماذا هاجم الليبراليون دستور 1923؟

عميد الثفافة المصرية (طه حسين) بالرغم من وعيه بأنّ الأصوليين متربصون له، وخاصة بعد معركة كتابه (فى الشعرالجاهلى) عام1926، كتب فى فبراير 1927 "لست أرضى عن الدستور الرضا كله.. ففيه نقص تشويه وفيه نصوص لابد من تغييرها.. ثم هاجم الذين صاغوا مواد الدستور هجومًا عنيفــًـا بسبب المادة رقم 149 التى نصــّـتْ على أنّ الإسلام دين الدولة.. وببصيرته الرحبة انتقد هذا النص.. ومن يقرأ المقال (اليوم) يُدرك أنه كان يستشرف المستقبل المتردى الذى نعيشه الآن.. حيث ذهب إلى أنّ النص فى الدستور على أنّ الإسلام دين الدولة "مصدر فرقة. لا نقول بين المسلمين وغير المسلمين (فقط) وإنما نقول إنه مصدر فرقة بين المسلمين أنفسهم.. فهم لم يفهموه على وجه واحد.. وأنّ النص على دين للدولة يتناقض مع حرية الاعتقاد، لأنّ معنى ذلك أنّ الدولة مكلفة أنْ تمحو حرية الرأى محوًا فى كل ما من شأنه أنْ يمس الإسلام من قريب أو من بعيد.. سواء أصدر ذلك عن مسلم أو عن غير مسلم..ومعنى ذلك أنّ الدولة مكلفة بحكم الدستور أنْ تسمع ما يقوله الشيوخ فى هذا الباب.. فإذا أعلن أحد رأيًا أو ألّف كتابًا أو نشر فصلا أو اتخذ زيًا.. ورأى الشيوخ فى هذا مخالفة للدين ونبّهوا الحكومة الى ذلك.. فعلى الحكومة بحكم الدستور أنْ تسمع لهم وتعاقب من يخالف الدين أويمسه" وفى هجومه على الأصوليين ذكر أنهم "كتبوا يطلبون ألاّ يصدر الدستور لأنّ المسلمين ليسوا فى حاجة إلى دستور وضعى ومعهم كتاب الله وسنة رسوله.. وذهب بعضهم إلى أنْ طلب من لجنة الدستور أنْ تنص على أنّ المسلم لا يُـكلّف بالقيام بالواجبات الوطنية، إذا كانت هذه الواجبات معارضة للإسلام.. وفسّروا ذلك بأنّ المسلم يجب أنْ يكون فى حـِـلٍ من رفض الخدمة العسكرية.. حين يُـكلف بالوقوف فى وجه أمة مسلمة.. كالأمة التركية مثلا (مجلة الحديث ـ فبراير1927 وأعاد نشره فى كتابه "من بعيد" الصادر عن الشركة العربية للطباعة والنشرـ ط 2 نوفبمر1958ـ ص232 وما بعدها).

إنّ النقد الذى وجّهه الليبراليون المصريون ضد دستور 1923، إنما هو جزء من المشروع الثقافى لهؤلاء المثقفين الذين امتلكوا شجاعة الإعلان عن آرائهم بوضوح، تلك الآراء التى يـُـمكن تلخيصها فى جملة واحدة: إنه لايمكن خروج مصر من ثقافة وآليات العصور الوسطى إلاّ بعد تأسيس دعائم الدولة العصرية.. وأول هذه الدعائم ضرورة فصل الدين عن الدولة (وليس عن المجتمع) وبتعبير أدق، فصل المؤسسات الدينية عن المؤسسات السياسية.. وأنّ المحك الطبيعى والمدخل الحقيقى لهذا الفصل هو إعداد دستور (عالمانى، نسبة إلى عالم البشر) يخلو من النص على دين معين للدولة.. كما هوالوضع فى الأنظمة الليبرالية، التى تُـكرّس دساتيرها وقوانينها لترسيخ حق المواطنة.. وتُعلى من شأن هذا الحق، الذى يتجسّـد فى منظومة أنّ الولاء للوطن سابق على أى ولاء (عقيدى أومذهبى أوآ  فلسفى) وتتأسس فلسفة هذه الدساتيرعلى أنّآ  الدولة State وفق التعريف القانونى، شخصية اعتبارية، مثلها مثل المؤسسات والهيئات إلخ، وأنّ المؤسسات والهيئات ليس لها دين ولا تتعامل بالدين..وفى ضوء ذلك التعريف القانونى، فإنّ الدولة آ يجب أنْ تكون محايدة تجاه مواطنيها.. وأنّ هذا الحياد هو الضمانة الحقيقية لتطبيق قواعد العدالة على جميع أبناء الوطن بغض النظر عن ولاءاتهم الدينية..وفى ضوء هذا الفهم الوطنى/العلمى لمعنى الدساتير (العالمانية) فإنّ الليبراليين المصريين فى عشرينيات القرن العشرين، كانوا يدقون أجراس الخطر من خطورة النص فى الدستور على دين معين للدولة.. ولعلّ هذا ما جعل الزعيم الوطنى الهندى (جواهر لال نهرو) يصف دستور 1923 الذى صدر بعد تضحيات شعبنا فى ثورة 1919 بأنه "لا يُشبهه دستور آخر فى الرجعية ". 

ذكر الزعيم نهرو ذاك رغم أنّ دستور 1923 تضمن العديد من المواد التى تُدعم فكرة الدولة الحديثة مثل المادة رقم (1) التى نصّتْ على أنّ "مصر دولة ذات سيادة وهى حرة مستقلة" والمادة رقم (3) التى نصّتْ على "المصريون لدى القانون سواء..وهم متساوون فى التمتع بالحقوق المدنية والسياسية.. وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة، لاتمييز بينهم فى ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين" والمادة رقم (4) التى نصّتْ على"الحرية الشخصية مكفولة" والمادة رقم (12) التى نصّتْ على "حرية الاعتقاد مطلقة" والمادة رقم (15) التى نصّت على "الصحافة حرة فى حدود القانون..والرقابة على الصحف محظورة..وإنذار الصحف أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإدارى محظور" والمادة رقم (20) التى نصّتْ على "للمصريين حق الاجتماع فى هدوء وسكينة غير حاملين سلاحًا..وليس لأحد من رجال البوليس أنْ يحضر اجتماعهم ولا حاجة بهم إلى إشعاره" والمادة رقم (23) التى نصّتْ على أنّ "جميع السلطات مصدرها الأمة" (عبدالرحمن الرافعى: فى أعقاب ثورة 1919ـ مكتبة النهضة المصريةـ عام 1947 من ص310ـ 327) ولم يكن طه حسين وحده الذى انتقد المادة 149 وإنما شاركه آخرون لعل أشهرهم محمود عزمى.. وأرجو من القارىء ملاحظة أنّ النص على دين للدولة جاء فى ذيل الدستور. 

***

مقالات اخرى للكاتب

أين الدول العربية من التنافس الأمريكى الروسى؟