08 - 05 - 2025

أمل دنقل ... ذكرى تتجدد

أمل دنقل ... ذكرى تتجدد

تعرفت على شعر أمل دنقل من المقاطع المدونة فى مجلات الحائط بالكلية. لم يكن الفضاء الإليكتروني قد ولد بعد، والكمبيوتر الشخصى يحبو بطيئاً. اجتذبت القصائد ذات الجَرْسِ النُحاسى أطياف شباب ينقبون عن غدٍ واعد فى حاضر قَلِقْ وغامض، ليقترب استشراف المستقبل من قفزة فى ظلام لا ندرك تبعاتها. امتلك أمل ناصية اللغة فتأبط مقاليد الشِعرَ الحر، الذى صنفه استاذنا العقاد تحت بند النثر، وقت ترأسه لجنة الشعر في المجلس الأعلى للفنون والآداب منتصف الخمسينيات.آ  

بعد أيام من نكبة 1967 نشر قصيدته (البكاء بين يدى زرقاء اليمامة)، متخذاً من ذخائر التراث زاداً للحاضر. يُروى أن امرأة زرقاء العينين رأت جيش الاعداء يتقدم نحو مضارب قبيلتها، اليمامة، متخفين خلف فروع الأشجار، فحذرت قومها فَسَخِروا منها وشككوا فى نظرها، وما هى إلا أيام حتى فاجئهم العدو، فقتل من قتل وأسر من أسر، فندموا وقتَ لا ينفع الندم. يُسقط أمل القصة على الحاضر، وكيف أهمل متخذو القرار، حينها، صيحات التحذير، حتى وقعت الكارثة. يقول أمل: (أيتها العرافةُ المقدسة/ ماذا تفيد الكلمات البائسة؟/ قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبار/ فاتهموا عينيك، يا زرقاء، بالبوار/ قلت لهم عن مسيرة الأشجار/ فاستضحكوا من وهمك الثرثار/ وحين فوجئوا بحد السيف: قايضوا بنا/ والتمسوا النجاة والفِرار/ ونحن جرحى القلب/ جرحى الروح والفم/ لم يبق إلا الموت/ والحطام/ والدمار).

برع أمل فى ربط التراث العربى بالواقع، حتى تظن أننا نعيش دورة تاريخ لا تنفك تتكرر أحداثها وتختلف شخوصها. فى أوائل السبعينات كانت مصر تمور وتئن تحت وطأة ضبابية الموقف من الحرب ضد إسرائيل، وسياسات اللا سلم واللا حرب، اندلعت المظاهرات واعتصم الطلاب بأحد الميادين حتى حاصرتهم الشرطة وانتهى الأمر كالمعتاد فأصدر أمل ديوانه (العهد الآتى) وقسمه إلى أسفار. تحت عنوان سفر الخروج، الإصحاح الأول، يقول أمل: (أيها الواقِفونَ على حافةِ المذبحهْ/ أَشهِروا الأسلحة!/ سَقطَ الموتُ; وانفرطَ القلبُ كالمسبحَهْ/ والدمُ انسابَ فوقَ الوِشاحْ!/ المنَازلُ أضرحَةٌ/ والزنازن أضرحَةٌ/ والمدَى.. أضرِحهْ/ فارفَعوا الأسلِحهْ واتبَعُوني!/ أنا نَدَمُ الغَدِ والبارحهْ/ رايتي: عظمتان .. وجُمْجُمهْ، وشِعاري: الصَّباحْ!)

نُصِبَ أميراَ لشعراء الرفض، وكناهُ آخرون (شاعر لا تصالح) نسبة إلى مدخل ديوانه الأشهر (أقوال جديدة عن حرب البسوس)، استلهم رسالة كُليب لأخيه قُبيل مقتله على يد أعداءه وعبر بها عن رفضه الصلح مع إسرائيل: (لا تصالحْ!/ ولو منحوك الذهب/ أتُرى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما .. هل ترى..؟/ هي أشياءٌ لا تشترى..)

دامت حرب البسوس نحو أربعين عاما بين قبيلتى تغلب وبني شيبان، وهما أبناء عم. قَتَلَ جَساس بن مُرة الشيباني كُليب بن ربيعة التغلبي ثأراً لخالته البسوس التميمية، ثأراً لناقة قتلها كُليب. ببراعة أسقط أمل الأحداث على الصراع العربى الإسرائيلى ووجهة نظره فى الصلح، فعندما جاءت الوفود تناشد اليمامة، ابنة كُليب، الصلح، قالت لهم: (أبى .. لا مزيد !!/ أريدُ أبى .. عند بوابة القصر/ فوق حصان الحقيقة منتصبا من جديد)، ولكن هيهات أن يعود الأب وأن يحلَ الصُلح.آ آ  

مضى على رحيل أمل خمس وثلاثون عاما، تحديدا في 21 مايو 1983، وما زال أيقونة تتلألأ فى سماء الشعر، حتى عندما كتب قصيدته الموت في الفراش، مُعبراً عن عجزه: (بيان ..../ أيها السادةُ، لم يبقَ اختيار/ سقط المُهرُ من الإعياء/ وانحلَت سيورُ العَرَبة/ ضاقت الدائرةُ السوداءُ حول الرقبة/ صدرنا يلمسهُ السيفُ/ وفي الظَّهرِ: الجدار!). 

رحم الله الأمل؟!.

[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد