08 - 05 - 2025

طابع بريد

طابع بريد

لا أذكر آخر مرة تلقيت فيها خطاباً احتل زاويته اليمنى طابع بريد. سَرَقَنا البريد الإليكتروني بسرعته وحيويته وتفاعله. بالأمس سلمنى رجل البريد مظروفاً عليه طابع لمعبد أبو سمبل احتفاءً باكتشافه عام 1817. أيام بعيدة بُعد الطفولة والصِبا وقت اقتنيت ألبوما لحفظ الطوابع. اترقب وصول خطابات أبى، وأصدقائه، والجيران. مستطيلة ومربعة. بيضاء وأخرى يطرز إطارها خطوط حمراء عريضة مائلة. أرفع طرف الطابع بحذر، أُكرر ذات الفعل من زواياه الأربعة. استخلِصُهُ بحرص. شيئاً فشيئاً ينفصل عن لحم الخطاب. أُمسكه بشغف بين أناملي. أضعه فى كفى جوهرة من ورق. اتطلع إليه واتخيل رحلته الطويلة.

مضى زمن كان المحبون يعطرون فيه خطاباتهم، أو يضعون زهرة بين أوراقه. غاب نداء رجل البريد فى مدخل البيت مُنادياً بأعلى صوته "بوسطة"، ماداً حرف الطاء. نهرول إليه يدفعنا شغف من أرسل وماذا كتب، حجم الطابع ورسمه ونقشه. حلت فضاءات التواصل الاجتماعى محل نوادى المراسلة. تكتظ الرسائل بنتاج ثقافات وبيئات مختلفة. نتبادل الصور، والحديث عن الهوايات.آآ  

ترجع فكرة طابع البريد إلى السير رولاند هيل حين اقترح على البرلمان البريطانى عام 1837 تطوير نظام تحصيل رسوم البريد بدفعها مقدماً مُقترحاً شراء صورة ولصقها على المظروف. بموافقة البرلمان صدر أول طابع يحمل صورة الملكة فيكتوريا. تلى ذلك إصدار طوابع بريد فى العديد من دول العالم بأشكال مختلفة. 

حكايات كثيرة تحملها طوابع البريد، احتفالاً بمناسبة أو تخليداً لذكرى أو تكريماً لأثر. صور أبو الهول والأهرامات والمعابد المبثوثة فى ربوع المحروسة الأكثر انتشاراً، بينما تعددت الشخصيات، محمد على. الخديوى اسماعيل الذى أراد مصر قطعة من أوروبا. رفاعة الطهطاوى أول عين رأت الغرب. الشيخ الإمام محمد متولى الشعرواى. ملوك ورؤساء مصر. فنانو مصر سيد درويش، كوكب الشرق أم كلثوم، موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، المسرحى الأول نجيب الريحانى، سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، العندليب عبد الحليم حافظ. مفكرو مصر وقوتها الناعمة بنت الشاطئ عائشة عبد الرحمن، الأستاذ العقاد، عميد الأدب العربى طه حسين، الحَكَّاء نجيب محفوظ، الشامل توفيق الحكيم.

أثناء إقامته فى باريس ارتبط عنوان توفيق الحكيم البريدى بعبارة (يُحفظ فى شباك البريد)، يكتبها الـمُرسِل على ظهر المظروف فإذا ما وصل الخطاب مكتب البريد حفظته الموظفة فى صندوق خاص به لحين مروره على المكتب لاستلامه. أيام وليال قضاها الحكيم فى فضاءات باريس يتنقل بين أغصانها كطائر خفيف الوزن صغير الحجم يلتقط حكاياته وحِكَمه من هنا وهناك ثم يكتبها مغرداً فى معزوفات لا تُنسى، عصفور من الشرق وزهرة العمر وغيرهما من كتب تضمنت نتفاً عن مشاهداته. على الجانب الآخر، ظل طه حسين يتحسب كلما وصله خطاب من سوزان وجلس إلى جاره الكهل ليقرأه له بفرنسية تآكلت مخارجها بفعل الإهمال وتقدم السن حتى صار يجتهد فى استنتاج المعنى أكثر منه فى تَبَيُن وسماع الكلمات. بزواجه منها صارت عينه التى تقرأ له.

البوسطجى، أشهر القصص ارتباطاً بالبريد، كتبها يحيى حقى، أبو القصة القصيرة فى العالم العربى، وحولها المخرج حسين كمال إلى فيلم سينمائى. بفعل الملل والعمل فى أحد قُرى الصعيد اعتاد عباس، ناظر مكتب البوسطة، فتح الخطابات وقراءة محتوياتها، تعرف على حكايات القرية البسيطة وهمومها الكبيرة وتسبب بإتلافه أحد الخطابات فى جريمة قتل ضحيتها فتاة القرية. إطار درامى مؤثر رسمه حقى على الورق ببراعة وجَسَد شكرى سرحان دور عباس بتلقائية تتماثل مع أدواره فى أفلام أخرى ليظل اسمه فى تاريخ السينما العربية مثل طابع البوسطة لا تتغير قيمته.

---------------

[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد