08 - 05 - 2025

المهاجر والكنز المهجور

المهاجر والكنز المهجور

تابع أكثر من مليون شخص مقطع فيديو ظهر فيه مامودو غاساما، مهاجر من مالى، يتسلق شرفات واجهة بناية سكنية بأحد ضواحى باريس لانقاذ طفل يتدلى من شرفة الدور الرابع. استغرق الأمر حوالى ثلاثين ثانية تمكن بعدها من الإمساك بالطفل والصعود به إلى شرفة الشقة.

بدا الأمر أشبه بأحد مشاهد الرجل العنكبوت فى سلسلة أفلامه الشهيرة التى قدمتها استوديوهات كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية عام 2002. إلا أن مامادو لم يَعَضَه عنكبوت مُعالج جينياً، كما حدث مع بطل الفيلم، ليكتسب هذه الصفات الخارقة.

ربما بحكم اللغة الرسمية التى خَلَفَها الاستعمار الفرنسى قَدِمَ مع مئات غيره إلى باريس بحثاَ عن عمل يؤكد له قيمته الإيجابية ويؤمن له مستقبله. مامادو مهاجر ضمن ملايين غيره يبحثون عن وطن يحتويهم ويُشعرهم بإنسانيتهم. وطن يمنحهم الأمان ويطمئن فيه على أولاده.

لا نعرف كيف دخل الرجل مدينة أحلامه، باريس، هل بأوراق رسمية، أم ضمن أسراب مهاجرى قوارب الموت فى مغامرة تتأرجح احتمالاتها الأكبر بين الموت غرقاً أو الاعتقال إذا تمكن منهم حرس الحدود، مع نسبة محدودة للنجاة والعيش بشكل غير رسمى ومحاولة الحصول على الجنسية. ظلت المغامرة، رغم مخاطرها، الخيار الأول أمام اجيال من الشباب نشأوا فى الضفة الأخرى من المتوسط من دون فرص جيدة للتعليم وفقرٍ مُدقع ومستقبل يكتنفه الغموض، ليصبح أى بديل، للأسف، أفضل من التمسك بالبقاء فى البلد الأم. فرنسا أحد بلدان الهجرة عن جدارة.

تزيد نسبة المهاجرين عن 11% من عدد السكان أغلبهم من أصول إفريقية، وتحديداً الدول الفرنكوفونية. رغم صعوبة دمجهم فى الحياة العامة، ما زالوا محل ترحيب حتى مع ما شهدته فرنسا من هجمات إرهابية على يد معتدين ذوى أصول إفريقية.

نوفمبر 2015، سلسة هجمات متزامنة فى باريس نفذها منتمون لداعش خَلَفت 130 قتيلا وأكثر من 400 مصاب. يوليو 2016، حادث دهس فى نيس ترك أكثر من خمسمائة شخص بين قتيل وجريح. مارس 2018، هجوم من داعشى ترك قتلى وقصة إنسانية بطلها الضابط أرنو بلترام، حين افتدى بنفسه إحدى الرهائن.

المعادلة صعبة، مهاجرون يحملون عقائدهم وأفكارهم وموروثاتهم الثقافية معهم، بعضهم يأتى للبحث عن الحياة وآخرون يُضمرون القتل والخراب.

صبيحة اليوم التالى لإنقاذ طفل الشرفة، قابل الرئيس ماكرون مامادو ليقدم له الشكر نيابة عن الشعب الفرنسى، مع وظيفة، رجل إطفاء، تليق بمؤهلاته، شجاعة وعفوية إيجابية ولياقة عالية، مع وعد بتسوية أوراقه القانونية ليصبح مواطناً فرنسياً.

على الجانب الآخر، أُودع الطفل دار رعاية ريثما تعود والدته من الخارج بينما حُبسَ والده على ذمة التحقيق واتهامه بالإهمال. قبل الهجرة لم يحلم مامادو بمقابلة رئيس دولته، وعندما هاجر اعتاد أن يتوارى من رجال الشرطة مخافة سؤاله عن أوراقه القانونية.

ومع هذا، تحرك بعفوية عندما رأى الطفل يوشك على السقوط من الشرفة. استخرج قدراته الكامنة تدفعه أخلاق رجال الطوارق التى تربى عليها فى مسقط رأسه. لم يشغله سوى الواجب حتى ولو على حساب حياته.

تُرى كم شاب يشبهون مامادو يعلوهم اليأس والإحباط، مؤهلون للانخراط فى الجماعات الإرهابية التى ترى فى هجماتها المتكررة على العاصمة تمبكتو نصراً للإسلام وخليفة المسلمين، وكم منهم ينتظر فرصة للعبور إلى الشاطئ الآخر للمتوسط ليبدأ حياة جديدة.

خلف كل مهاجر كنز إمكانات مهجور عجزت بلده عن اكتشافه والاستفادة منه لينتهى الأمر بأن تكسب فرنسا وتخسر مالى.

[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد