28 - 08 - 2025

رحمة أدركها لاحقا .. قصة قصيرة لنورهان صلاح

رحمة أدركها لاحقا .. قصة قصيرة لنورهان صلاح

الساعة الآن الثالثة صباحا، فجر يوم الرابع عشر من فبراير .. في تلك الليلة، كُنت تلك الطفلة الحالمة التي خلدت إلى نومها باكراً، فراراً من ضجيج النهار، أحاول تخطي الساعات للفوز بصباح عيد حب جديد يجمعنا سويا ويضاف إلى دفتر أعوامنا الثلاث.

في ذلك اليوم، لم أكن أنتظر موتا أو أتأهب لفقدان أحد، لم يكن للرحيل موعد معنا كما عهدناه سابقا بمقدمته المهيبه.. مرت دقائق قليلة، وصوت تواشيح الفجر ينبعث من مكبرات صوت المسجد المقابل لبيتنا، يوقظ المتهجدين والنيام، في تلك الاثناء تداخلت أصداء صراخ تملأ أرجاء منزلنا والكل كان نائما، يخرج من غرفته مهرولاً يهيم على وجهه باتجاه الصدى.

أذكر، أنه عندما رحل جدي عنا منذ سنوات قليلة، كنا قد ودعناه وسرنا من خلفه سالمين، لم يهزمنا شئ آنذاك، ربما كان ذلك الموت مرتقباً ومألوفاً لدينا بعد أيام مرض عاصرناها.. عكس تلك الليلة التي خالفت التوقعات.

خرجت من غرفتي أفاوض الخُطى، حينما أدركت أن الأصداء الصادرة تأتي من الغرفة القريبة مني، بمجرد أن بلغت أعتابها، كانت بعض روحي لفظت أنفاسها الاخيرة دون سابق إنذار أو وداع، كل ما جال في خاطري حينها أنني كنت مستيقظة عندما عاد من العمل في ساعة متأخرة من الليل وكنت قد أجلت لقائي به للغد، لم أودعه.. أو أقل له "حمدا لله على سلامتك ياعمي وأمنحه قبلتي المعتادة على خديه"، على أمل أني سألقاه في الغد.

توقفت على أعتاب الباب أحملق فيمن حولي، متأملة المشهد.. كل ما شعرت به حينها وخزة في القلب أصابتني كسهم وحبست أنفاسي، عندما رأيته مسجي فوق السرير ورأسه خامد بين أحضان أخيه، وعيناه ذاهبتان إلى البعيد.

بحذر تقدمت أجلس إلى جواره في سكون، تساقطت دموعي المتحجرة دون رغبة مني على وجنتيه، أقدمت على طبع قبلة على جبينه ، وشفتاي في حرارة النيران التي تئن بداخلي تحت وطأة صراخ مكتوم..

مرت اللحظات، كانت إعصاراً أشد من ليلة عشتها قبل سنوات، عند أول فراق لحبيب في سنوات كان القلب فيها أخضر، عندما رن هاتفي في الساعات الأولى من الصباح، وإذ بصوت الرجل الذي تخلد روحي إليه يخبرني بأنه سيتزوج من أخرى، ثميغلق الخط دون تفسير أو توضيح..

الموت والهجر يتقاربان في الآلم باختلاف التفاصيل والمراحل.. الأول لم يتحمله قلبي الذي كان بكراً آنذاك، وفي الثانية كان القلب قد تدرب على الهجر، فُسلب منه الأعز.. كأنما الدنيا تزيدك ألما كلما اشتد وثاقك ثم انتصبت قامتك، تأتيك بالمزيد لتختبر درجة احتمالك..

مهما اجتهدت في نقل مشهد تلك الليلة، التي خرجت فيها أهرول حافية القدمين في شوارع قريتنا قبل بزوغ الفجر، أبحث فيها عن طبيب يسعفنا ولم أجد!.. لن أفلح في وصف ذلك اليوم الذي اتشحت فيه جدران منزلنا بالسواد بمجرد أن غادرتنا عربة الإسعاف تاركة جسده الهامد يخلد في سكون، لم نكن ندرك حينها أن تلك الفاجعة كانت مجرد بداية لأحداث عبثيه توالت بعد رحيله بأيام قليلة مزقتنا جميعا، أدركنا بعدها أن ذلك الرحيل كان رحمة، فابتسمت..

ابتسمت أيضا، يوم أيقظني بعدها صوت هاتف يرن في منتصف الليل يخبرني بأن الرجل الذي خانني قبل أعوام وتركني دون تفسير، ثم عاد إلي أسفاً وعدت له آمنه، قد تزوج الليلة فعليا بآخرى، فابتسمت وقلت لعلها رحمة سأدركها لاحقاً.