إنه الرابع من شهر يناير حيث الجو قارس البرودة، ورغم ذلك تحاملت الجدة على نفسها لتعد لأبنائها ما لذ وطاب، فالليلة ستكون ليلة النصف من شعبان، وأبناؤها على كثرتهم لن يستطيعوا المساعدة، فهى لم تنجب إلا ابنة واحدة هى أكبر أبنائها، وقد تزوجت وأنجبت ولدا هى الأخرى ومع ذلك ورغم أنها كانت حاملا فى شهرها الاخير إلا أنها أصرت على المجئ لمساعدة والدتها، فهى لا تعد نفسها أختا لإخوتها، بل أما لهم ، فهى التى تعهدتهم بالرعاية منذ نعومة أظفارهم، كان يوم زواجها من أصعب الأيام التى مرت عليها لأنها فارقتهم، تقسم أنها بعد أن أنجبت لم تشعر بأية مشاعر غريبة، فقد شعرت بالأمومة قبل أن ترى أبناءها، هى التى ترتب أغراضهم وتذاكر معهم و تداعبهم وتطلع على أسرارهم وتحل مشاكلهم .
فى غمرة انشغالها، أمسكت ببطنها وهى تتألم،لقد جاءتها آلام المخاض، تركت الجدة ما فى يدها وطلبت من زوجها استدعاء الطبيب، وقبل فجر ليلة النصف من شعبان، صدرت عنها صرخة مكتومة تلتها صرخة وليدتها.
تلقفتها بلهفة بالغة، أما أفراد أسرتها فقد أخذوا يتأملونها وكأنها مخلوق فضائى، فهى تعد البنت الاولى والوحيدة فى هذه العائلة الكبيرة .
ارتبطت الأم بابنتها ارتباطا شديدا، كانت تريد أن تعوض من خلالها كل ما حرمت منه، فقد نشأت فى أسرة محافظة، لم يكن أبوها يسمح لها بكثير من الأمور، فهى ممنوعة من زيارة صديقاتها أو ارتداء ملابس غير محتشمة منذ صغرها، وكذلك ممنوعة من شرب القهوة أو السهر ..... الخ، ولم يكن ذلك يجعلها تحتج يوما بل كانت تكن له احتراما وحبا كبيرا، ولو سمح لها بالخروج ما كانت لتخرج، فقد تحملت المسئولية منذ أن جاءت إلى الحياة، فلم يكن هناك وقت لديها للخروج او اللهو.
كبرت الطفلة واعتادت أن تذهب إلى بيت جدها مع أسرتها، فينظر إلى بنطالها القصير الذى يعلو ركبتيها بغضب، ويعتب على أبيها : بقى دا لبس بنت أستاذ فى جامعة الازهر! ترد الأم بأدب: عايزاها تلبس كل اللى نفسها فيه، عشان أما تكبر وتتحجب مايبقاش نفسها فى حاجة.
لم تكن الصغيرة تعلم حتى كتابة هذه السطور، لم كانت أمها تقص عليها أسرارها؟ كانت كثيرا ما تمل، ولم تفهم حينها أن الأم لم يكن لديها صديقات بالمعنى الذى عرفته هى فيما بعد، فقد أبعدتها مشاغلها عن كل شئ وكأنما خلقت فقط لتعمل، ورغم أن بيتها لم يخل يوما من الضيوف، إلا أنها كانت تنشغل عنهم بهم، فلابد من إعداد واجب الضيافة على الوجه الأكمل.
لم يرها أبناؤها يوما تجلس فى الشرفة لتحتسى قدحا من القهوة التى كانت تشربها لتبث فيها النشاط ليس اكثر، لم تعرف أسرتها - التى صارت أربعة من الأبناء - الطريق إلى المكوجى أو الحلوانى أو حتى الترزى، فقد كانت بارعة فى الحياكة، كانت السيدة الوحيدة التى تساعدها فى أعمال المنزل ربما تحتاج إلى المساعدة أكثر منها، إلا أنها لم تفكر يوما فى الاستغناء عنها لأنها تعرف مدى حاجتها، ورغم كل مشاغلها، ظلت أما لإخوتها بل وزاد عليهم أبناء عائلة زوجها، لم تتأخر يوما عن تقديم المساعدة والنصح، تتذكر الابنة كم كانت تتحامل على نفسها لتصنع بنفسها ملابس أمها وبنات العائلتين بعد أن تزوج إخوتها ورزقوا بالبنات والبنين، فكانت كثيرا ما تفاجئ صغيراتهم فى الأعياد والمناسبات.
كان المسلسل العربي فى التلفاز هو العمل الوحيد الذى تحرص على متابعته، وعادة ما كان أطفالها ينبهونها إلى موعده، فلا تأتى حتى يقولوا جملتهم الشهيرة (إخراج يا ماما إخراج) إشارة إلى إنتهاء التتر بجملة (إخراج فلان)، فتأتى على عجل وهى تحمل وعاء لإعداد طعام العشاء، تضعه أمامها وتأخذ فى تقشير حبات البطاطس أو قطف أوراق الملوخية أو إعداد الخس.... الخ.
كبر الأبناء وأدركت الإبنة لم كانت الأم ترى أن مولدها فى تلك الليلة ( ليلة النصف من شعبان) مدعاة لليمن، فكانت تحتفل بذكرى ميلادها مرتين، مرة فى شهر يناير والثانية فى شهر شعبان.
مرت الأعوام وتزوج الأبناء وفجأة رحل الأب، وترك شرخا عظيما فى نفس ابنته، التى شعرت باليتم رغم نضجها، هى ترى الحياة لوحة، وبرحيل الأب انكسر أجمل ما فيها، إطارها الذى يحميها فلم يعد لها مذاق ولا قيمة، ظلت بالقرب من أمها، ولكن بنفس كسيرة، لم يعد البيت كما كان، لم ترتد السواد ولكن السواد هو الذى ارتداها، كانت لديها قناعة أن الأب أخذ معه بهجة كانت تملأ نفسها ولم يترك حزنها عليه مكانا لحزن آخر فى المستقبل.
أما الأم فقد تقبلت رحيل زوجها بصبر وثبات، وأيقنت أن رحيله رسالة من الله كى تتفرغ لعبادته، فقد كانت ترى أنها قصرت كثيرا لانشغالها بأمور الدنيا، مضت أعوام وهى تصوم النهار وتقوم الليل، يأتى ابنها من عمله فيدلف إليها قبل أن يصعد إلى شقته، يجلس بتململ وهو ينتظر أن تنتهى من صلاتها على ذلك الكرسى الذى صممته بنفسها ليتناسب مع طول قامتها وأمامه تضع حامل المصحف.
تسلم الأم وتنظر إليه بشفقة وهى تقبله: معلش يا حبيبى ذنبتك جنبى، يرد الإبن بابتسامة: إنتِ بتصلى التراويح!!! تجييه بعتاب: بس ربنا يغفر لى، الواحد زمان ياما قصر .. يجيب ضاحكا: إعترفى يا ماما كنتى بتعملى إيه فى شبابك بالظبط؟
كانت تريد ألا تغفل لحظة عن ذكر الله، ولكن القدر كان له رأى آخر، فقد داهمها المرض، لم تعد تستطيع أن تلتقط أنفاسها، وأتعبها الدواء أكثر مما أتعبها الداء ولكنها ظلت تجتهد فى العبادة ما استطاعت، تبحث عن السائلين لا تنتظرهم.
جمعت ما تيسر من المال وأسرت لابنتها، أريدك أن تضعى هذا المال فى بناء مسجد بشرط أن أساهم به فى ثمن الارض وليس فى البناء، حتى إذا ما تهدم لأى سبب وأقيم غيره، ظل الأجر مستمرا وأنا فى قبرى ، نفذت الإبنة ما طلبته الأم وبعد عام مرت إلى جواره فإذا به بناء غاية فى الروعة والجمال، بشرت الأم ففرحت لبرهة ثم قالت: مش كفاية، روحى قولى لعمك مختار (د. محمد المهدى مختار رئيس الجمعية الشرعية حينها) ماما بتقولك عايزة حاجة يفضل ثوابها ليوم القيامة.
أخذت ابنتها مبلغا آخر من المال وفى نيتها أن تقدمه له كصدقة جارية بإسم الأم دون أن تخبره بما قالت، فما العمل الذى سيظل قائما حتى قيام الساعة!!! وفى اللحظة التى قدمت إليه المال شعرت بتأنيب الضمير، ظلت تتلعثم: حضرتك عارف الناس الكبار ليهم طلبات غريبة .... إلخ ثم أخبرته برغبة الأم، ضحك الرجل قائلا: طلبها موجود ، إحنا بنجمع مبلغ من يومين عشان نشترى مقابر صدقة، كانت سعادتها غامرة حين أخبرتها الإبنة.
ذات يوم زارت الأم ابنتها وخلعت سوارها الذهبى وألبستها إياه وهى تقول: حيكون فى إيدك أحلى، وتكرر ذلك الفعل مرارا معها ومع أختها.
شعرت الإبنة بانقباض صدرها ولم تعد تفرح بهدايا الأم ،أدركت أنه الوداع، ولم تلبث كثيرا حتى اشتد عليها المرض، تسمعها الإبنة تتمتم: يارب ماتطولش عليا، فتنهرها بشدة، ترد الأم: أنا عارفة إن ما فاضلش كتير، ترد الإبنة وهى تتصنع المرح: وعرفتى منين؟ شوفتيها فى الكنترول!!!
نقلت الأم بعدها بفترة قصيرة إلى المستشفى وهى فى حالة حرجة ، ثم خرجت بعد إلحاح منها: عايزة أموت فى بيتى، عادت إلى بيتها وقد التف حولها عدد من القطط التى كانت تأويهم فى حديقة منزلها، جلسوا جميعا وهم يتطلعون إليها بحزن عميق وأدب يليق بجلال اللحظة دون أن يلعبوا معها كعادتهم، كان المشهد غريبا بحق.
نطقت الأم الشهادتين ثم دخلت فى غيبوبة لم تطل كما سألت الله، وفى ليلة النصف من شعبان كانت الإبنة تجلس عند قدميها تدعو لها وتقرأ لها القرآن، وفجأة أخذت شهيقا قصيرا فصدرت عن الإبنة صرخة مكتومة بينما صمتت الأم للأبد، ماتت فى نفس الليلة التى ولدت هى فيها ليلة النصف من شعبان، بعد أن أثبتت لها أن الأمانى كانت لا تزال ممكنة، وأن قلبها كان لا يزال به متسع للبهجة و لمزيد من الأحزان أيضا ولكنها لم تكن تعلم.