منذ فترة ليست بالطويلة ولا بالقليلة ولا بالمتوسطة دعيت أنا وصديقي الكاتب والروائي محمد محمد مستجاب من قبل مكتبة الإسكندرية للحديث عن مستقبل المسرح العربي، جهزنا حالنا واتجه كل منا من مسقط رأسه إلى هناك لنلتقي على مأدبة الأحبة، يومنا بدأناه بطبقين كبدة من عند الفلاح، وبعدين قعدنا اتكلّمنا عن المسرح، وختمناه بساندوتشات محمد أحمد، وشفت فيه الشاطبي.. وقلت في بالي عمار يا إسكندرية...
في الليلة دي ما كنتش عايز أتكلّم عن المسرح قد ما كنت عايز أتكلّم عن عصاية التصوير اللي مستجاب شايلها وماشي بيها، العصاية دي وإحنا في طيارة الجزائر كان ليها نوادر، كان مستجاب مصرّ يفردها في الطيارة ويصورنا بيها، طبعًا اللي قاعدين في الكراسي اللي قدّامنا بيتفاجئوا إن في موبايل بيظهر قدامهم فجأة على عصاية طويلة وحد بيصور بيه في الطيارة، المشكلة مش في الناس اللي بتتفاجئ، المشكلة في الأمُّور اللي قاعد قدّامنا مع خطيبته وحاجز التلات كراسي وكأنه في ميكروباص رايح أحمد حلمي، حاطط إيده على كتفها وداير ينش لها الدبان رغم إن مافيش دبّان.. بس هو مصرّ هو كمان إن في دبّان وإنه خايف عليها من الهوا الطاير، رغم إننا في الطيارة في الجو وما فيش هوا طاير، بس الرومانسي عايز كده، المهم مستجاب كل شوية يمد العصاية وصاحبنا هيتجنن ويبص لنا بصات غريبة ويبعد العصاية ويهلفط بالكلام، ومستجاب يفردها تاني، لحد ما قربنا من الجزائر وصاحبنا قلبه جمد وبص لنا وبدأ يزيد في الغرام، يشتم يعني، المهم بصيت له جامد وركزت في عينيه، وقلت له بصوت حاد: ديّر وشّك وخلّيك في حالك، خلاص خليك في دبّانك لو سمحت.. صاحبنا ديّر وشّه وجه ساكت تمامًا، ومستجاب لمّ عصايته، بعد شوية بصيت له بحدة وقلت له إحنا قرّبنا من تونس لو حابب تنزل ممكن أقول للكابتن وأنزلك عادي.. ضحك الراجل، وقعد يهش الدبان من على وشّها رغم إن مافيش دبّان، وما خلصناش من عصاية مستجاب طول الرحلة، لحد ما طلع لنا واحد من الدرك اللي على البحر وقال لنا ممنوع، يا عم الله يهديك: ممنوع.. من يومها وكلمة ممنوع هي كلمة السرّ لمستجاب.. هذا عن عصا مستجاب وعن مصائبها، كل ما مرّ علينا أضحكنا بشكل مفزع لدرجة أنني كأي مصري كنت أقول بعد الضحك: اللهم اجعله خير.. في المساء وأمام المكتبة شغلتني صورة مستشفى الشاطبي.. هذا المكان الكئيب الوجع، المليء بالأنين والوجع والموت، عمري ما مريت على هذه المستشفى ووقفت أتأملها قد النهارده.. يمكن لأن خالتي هنية ربنا افتكرها وريّحها من ذكرياتها المؤلمة مع المستشفى دي؟ مش عارف.. بس الأكيد الموضوع له علاقة بخالتي الله يرحمها.. ضاع منها أيام كتير من عمرها بين جدران الشاطبي وهي قاعدة بابنها محمد وبعدين ببنتها عزة اللي سبقوها للجنة .. وقفت أبص على روحها... هي ممكن تكون لسه قاعدة بعزة بنتها جوه.. معقولة .. لو سألت عليها حد هيطمني إنها كويسة وإن عزة بخير..
ماشي معايا أخويا محمد مستجاب وبعد أن توقفت عن الضحك تمامًا انتبه وأخذ يسألني بين الحين والآخر: مالك؟.. مش مبسوط ليه؟ إيه اللي مزعلك؟
مش قادر أقول له إن جدران مستشفى الشاطبي مزعلينني قوي يا صاحبي.. عمال بأضحك عشان ما أضايقش حد .. بس مخنوق قوي.. مخنوق يا خالتي.. ما تعرفيش كنت بأحبك قد إيه..
مش قادر أقول لمستجاب إن الشاطبي خدت من جسم خالتي راقات.. وخدت منها عزة بعد ما فشلوا دكاترتها في علاج محمد ابنها... خالتي كانت صابرة قوي.. كانت بتحب الناس قوي.. متسامحة قوي.. وعفيفة النفس قوي.. الدموع خانقاني.. نفسي أعيط بس خايف دموعي تزعل غيري.. خايف أسأل الحارس وأقول له أنت فاكر أم عزة.. الست الطيبة اللي كانت بتيجي ببنتها لحد ما ربنا افتكرها عندكم ليجاوبني ببلاهة مين أم عزة دي إحنا عندنا مليون أم عزّة يا بني..
لو قال لي كده هأخنقه لأني متأكد إنهم كلهم فاكرينك يا خالتي..
مستشفى الشاطبي بلاطها ما نشفش من عرقها ودموعها لحد دلوقت رغم السنين دي كلها وما نشفش من عرق ودموع المليون اللي زيّها..
عمري ما أنسى لما جيت لها الساعة 7 صباحًا أنا وأحد أقاربي من البلد ولقيتها قاعدة وبنتها متغطية قدّامها وأول ما شافتني قالت لي عزة كان نفسها تشوفكم يا سعيد.. ساعتها حسيت إني عايز أوطي على رجليها أبوسهم وآخدها في حضني وأقول لها كلنا ولادك... مش عارف ما عملتش كده ليه.. يمكن عشان ما قدرتش.. يمكن عشان خالتي ما كانتش سامعة غير صوت وجعها.. يمكن عشان كنت خايف قوي من جدران مستشفى الشاطبي وعايز آخدها ونمشي... يمكن كنت خايف عزة تزعل منّي عشان بأقول لأمها كلنا ولادك؟ بس عزة ما كانتش هتزعل لأنها كانت بتحبنا قوي وكانت بتعتبرنا إخواتها فعلا... والله ما أنا عارف إيه السبب بس ما كنتش قادر فعلا.. كنت حاسس إن خالتي هنية نفسها ترجع بالزمن أو تجري بيه لحد ما يخلص...
وقفت عايز أمد إيدي عشان أمسح دموعها بس ما أمكنش.. لأن دموعها ما كانتش بتنشف..
وإحنا واخدين عزة في الإسعاف لمسقط رأسها كنت سامعها بتوشوشها وتقول لها إنها مش هتغيب عليها.. بتطمنها عشان ما تخافش لوحدها .. سمعتها بتقرا الفاتحة وبتطلب من أمها (جدتنا خضرة رحمها الله) تاخد بالها من عزة.. (عزة أمانة عندك يا حاجة خضرة).. ما كنتش متخيل إن العمر دا يعدي وخالتي توفي بوعدها وتروح لعزة قبل ما حد تاني يسبقها للمكان اللي هي راقدة فيه... الله يرحمكم ويرحم الجميع ويرحم الناس من روتين ووجع مستشفى الشاطبي..
الشاطبي هيجت فيا مواجع كتيرة قوي يا خالتي.. بصيت لها وأنا حاسس إن فيها كتير موجوعين زيّك.. فيها فعلا مليون عزة ومليون هنيّة قاعدين قدام المليون عزة مستنيين الصبح علشان ياخدوهم يروحوهم ويستأمنوا عليهم المليون حاجة خضرة لحد ما يحصّلوهم قبل ما حد يسبقهم ويروح لهم..
كنت جاي أتكلم عن المسرح اكتشفت وأنا واقف قدام سور مستشفى الشاطبي إننا أصل التراجيديا الإنسانية مش أي حد تاني.. هي نفس الخشبة اللي سوزان مبارك كانت عايزة تهدها وتعملها فندق ضخم للسادة.. ما كانتش واخدة بالها إن الناس لو سمحت لها بكده أرواح عزة وزمايلها ودموع خالتي واللي زيها ما كانوش هيسمحولها... الشاطبي ملكوت تاني... صراع مع الحزن اللي ما بينتهيش...
الشاطبي وجع لا ينتهي بين أحضان هذه المدينة التي تعشق الفن كعشقها للبحر، الجميع هنا لا جديد لديهم سوى عشق البحر غير المتناهي، وإلى جوارهم صراخ الفقد والوجع والحزن غير المسموع نتيجة جدران الشاطبي المتصدّعة من سيل الدموع، الشاطبي منبع دائم الهطول للدموع والبحر في الإسكندرية مصب لا يشبع وسط هذا الضحك الذي لا ينتهي.. خشبة مليئة بكل المتناقضات، كلّها تؤكد أننا أصل التراجيديا في العالم حتى ولو كان الضحك شريك في الحدث، لكنها عجينة تراجيديا خالصة..