قال وعيناه تتسعان : " كل الخيوط في يدي .. أرفع الناس وأنزلها ، أعزها وأذلها " .
صوب نظرته تماماً في حدقتي محدثه وهو يروي :
" لم تكن المشكلة هناك ، ولكن المشكلة هنا .. لقد راحت فيها رؤوس ورقاب .. نعم يا سيدي .. لقد كنت هناك حين وقعت الواقعة ، وقلت لهم أنكم لم تستمعوا إلي نصائحي فحلت بكم اللعنة .. ويبدو أن بعضهم لم يكن يعرفني ، فتساءلوا وهم يبدون إندهاشهم من تواجدي في هذا المكان الحساس .. قلت لهم كلمة واحدة : " أنا المخبر" ، فاختفت ألسنتهم في أفواههم المغلقة ..
اعتدل في مقعده وهو يحاول أن يريح كرشه المنفوخ ، ثم أشار إلي رأسه بسبابته قائلاً :
- أنا أعتمد تماماً علي نفسي .. لم أسع إلي أي منصب ، ولكن الدنيا كلها كانت تأتي إلي دون طلب .. أنا لا أريد شيئاً سوي أن أكون " المخبر " ..
نعم .. لقد فعلها المخبر .. ويكاد يردد " أنه المخبر" طول الوقت ، وقبل الأكل وبعد الأكل ، حتي أنني تذكرت ذلك المشهد الكوميدي في فيلم لفؤاد المهندس لأحد الشخصيات التي تشكو من قصر قامتها ، فنصحها الطبيب النفسي أن تكرر لنفسها وبشكل مستمر عبارة : " أنا مش قصير قذعة ، أنا طويل واهبل " ، ووجه المقارنة هنا هي حالة الإنكار ، لأنه لا القصير سوف يصبح طويلاً ، ولا الأهبل سوي يصبح عاقلاً ، ولا المخبر سوف يصبح عالماً..
لقد تناولت " حالة الإنكار " هذه في مقالات عديدة سابقة لي لوصف أسلوب إدارة البلاد ، وهذه الحالة ليس ميئوساً منها ، ويمكن ، بل ومن المهم علاجها ، لأن آثارها لا تتعلق بالمريض شخصياً ، وإنما للأسف تؤثر سلباً علي قطاع من الجماهير ، حيث تنتقل العدوي بشكل يهدد الصحة النفسية للمجتمع .
وأرجو ألا يعتبر من يختلف معي في الرأي أنني أسخر أو أحط من شأن أحد ، لأن تلك المقابلة الكوميدية تقفز إلي الذهن مباشرة ، ورغم ما يبدو من التناول الساخر الظاهري ، إلا أنه محاولة جادة تفتش خلف هذا الظاهر عن تفسير وعلاج .
ولا بد هنا أن نلاحظ أيضاً أن رئاسة الجمهورية ليست أحدي الصفات الشخصية أو الممتلكات الفردية لأي إنسان ، وإنما هي وظيفة شأنها شأن أي وظيفة تخضع لما يسمي التوصيف الوظيفي وشروط التعاقد ، ولعل الذين يستعدون للتنافس في الإنتخابات الرئاسية القادمة في حاجة كي يراجعوا ذلك .
ومن المفيد أن ننعش الذاكرة ونتذكر أنه عندما أصدر الرئيس السابق مرسي إعلانه الدستوري المشئوم في 21 نوفمبر 2012 ، وقبلها تخلص من رؤوس المجلس العسكري السابق ، بدا أنه رغم أن العسكريين يفترض أنهم خبراء في الضربة الخاطفة ( Blitzkrieg ) ، إلا أنهم نالوا ضربة خاطفة من مهندس مدني متخصص في الفلزات ، والناس كما نعرف جميعاً .. معادن .. إلا أن الحكاية كانت مختلفة .. وقد حاولت أن ألمح إلي ذلك في العديد من مقالاتي التي كانت تنشر حينها في أكثر من جريدة ، قبل مصادرة قلمي تماماً ...
وقتها كانت أي محاولة للفهم والتحليل تشبه التنجيم وضرب الودع ، وظلت التطورات تبدو غريبة غامضة ، فتارة يسود الحديث عن الطرف الثالث المجهول / المعلوم ، وتارة تتقارع سيوف أهل القانون والسياسة وكأن هناك منافسة حقيقية ، دون تفسير شاف كاف واف لهذا القرار أو ذاك .. ولكن اتضح أنه كان هناك من يختفي في الظلام الرطب يخطط بدأب وهو يحاذر أن ينكشف أمره ، ويتحفز كي ينقض في اللحظة المناسبة ..
كان من الواضح أن هناك خطة شيطانية كي تستعيد سلطة الفساد والمحاسيب مواقعها التي فقدوها بعد 25 يناير 2011 ، ليفرضوا بعد ذلك سلطتهم المطلقة علي حكم مصر ، من خلال خطوات حثيثة للسيطرة علي الإعلام ، وضمان السيطرة علي السلطة التشريعية ، دون أي إحترام لدستور أو قانون ..
ويبدو أن أحداً لم يتوقف كي يسأل عما إذا كان ذلك الجبروت والتسلط يتماشي مع وعود الرئيس العديدة سواء أثناء حملته الإنتخابية أو بعد انتخابه رئيساً ؟؟ ..
أن الخروقات المتتالية للدستور تؤكد أن هناك انهياراً كاملاً للشرعية التي أصابها إهتزاز سوف يؤدي أدي في النهاية إلي السقوط الحتمي بعد أن حرصت سلطة الحكم علي إفراغ الدستور من مضمونه ، ولابد من الإعتراف بتلك الحقيقة والتسليم بما يترتب عليها .
ورغم إنكشافه الكامل ، يقف المخبر منتشياً ولديه شعور هائل بالسلطة ينفخه كبرميل أجوف ، يتحدث بثقة مطلقة تكشف بسهولة عن جهل مطلق ، يسير مختالاً متعاجباً وهو يقسم للناس أن أكثر ما يميزه هو التواضع ، وفي أعماقه ما يكشفه لأحد أصدقائه :
- أخشي من اليوم المحتوم الذي ستزول فيه سلطاتي ، أنا مرعوب من لحظة المعاش وكأنها لحظة الموت ، وربما تكون الموت فعلاً .. فمن أجل عملي النبيل أصبح لي أعداء في كل مكان لا أستطيع حصرهم أو تحديدهم ، أنهم في مكان ما ينتظرون لحظة إنقشاع أضواء السلطة من حولي ، وحينها وفي ظلام المعاش البارد قد ينقضون كالذئاب الجائعة .. لكنني علي أي حال راضي بإنجازاتي ..
يتنهد قبل أن يتلفت حوله بحرص ، ثم ينحني علي أذن صديقه هامساً :
بالطبع أؤمن نفسي .. فهؤلاء الذين ينتظرون سقوطي أقوم بتدميرهم تماما ً، أو أبذل ما في إستطاعتي كي ألوثهم فلا تقوم لهم قائمة مرة أخري .. أن الشيطان نفسه يعجز عن حيلي ..
ينهض ويسير مختالاً متعاجباً ، وهو يصوب عينيه ذات اليمين وذات الشمال فترتعد فرائص البسطاء ، يسارعون بخطواتهم كي يتواروا عن عينيه ، ولكنهم يشعرون به خلفهم تماماً ، تلفح أنفاسه أقفيتهم ، يوسوس في آذانهم بفحيح نبراته الآمرة الناهية ، يقول لهم بصوت خشن أجش : "
أنا خلفكم أينما كنتم ، مثل ملك فوق أكتافكم أسجل أنفاسكم وهفواتكم الصغيرة والكبيرة ، ويوم الحساب آت يا من ظننتم أنكم تملكون محاسبتي ، أنا من طينة أخري غيركم ، خلقت كي أركب فوق ظهوركم كي أحميكم ، وأياكم أن تفكروا مرة أخري في التمرد علي أقداركم ..
تتصاعد صرخات وتأوهات من حدود المدينة ، يبتلع الرجال ما تبقي من مظاهر الذكورة ، ويسارعون بإغلاق الأبواب بإحكام وهم ينظرون إلي زوجاتهم بخجل ، وعندما يتصايح الأطفال بأغنيات الحرية ، يصرخون فيهم بالصمت لأن الجدران لها آذان .. وخلف النافذة يمر شبح "البصاص " متعملقاً ، فيتقزم الرجال وتنتشر حالات التبول اللاإرادي .
تنطفئ الأضواء في كل بيوت المدينة ، ينام الناس مع كوابيسهم ، بينما " البصاص " لا ينام فهو خلف كل باب ، تحت كل فراش ، هو في العقول والقلوب …
______________
*مساعد وزير الخارجية الأسبق