هل يريد الناس فعلا إعلاما حرا، يحترم عقولهم، وإعلاميين أحرارا يقولون ما يعتقدون بتجرد وموضوعية ومهنية دون رغبة في شيء ولا رهبة من شيء ؟؟
بديهية أصبحت لدي محل شك كبير، فوسائل الإعلام الناجحة بمقاييس المجتمع ، والإعلاميون الناجحون بالمقاييس نفسها ، هم الأكثر غوغائية ولا موضوعية ، وهم المتحيزون حتى النخاع لوجهة نظر أحادية، تؤمن لهم مصالحهم، وتحولهم إلى مجرد أدوات وعرائس ماريونيت تحركها يد خفية من خلف ستار . هذه اليد نفسها تمارس "تصحير الساحة" من إعلاميين يحترمون ذاتهم ومهنيتهم على نحو ماحدث ليسري فودة وريم ماجد.
بالتجربة أيضا تتعثر "المشهد" فيما تشق الساحات متقدمة صحف متواطئة، تجمل واقعا بائسا ، وتنشر أخبارا مثيرة و"مفبركة" وقصصا ما أنزل الله بها من سلطان ، تتعثر بطهرها "المشهد"، وتعلو أسهم الصحف التي تمارس "الابتزاز" للحصول على الإعلانات ، و"ابتزاز رغبات" البسطاء بنشر الصور العارية والقصص المثيرة المتخيلة ، تشوه الشرفاء ، وتدافع عن المشوهين ، تأكل بثدييها وأثداء الأجهزة التي ترعاها ، ورجال الأعمال الذين يحمون مصالحهم ويخوضون معاركهم ، دون معارك الوطن.
الواقع المستقطب والمشوه ، على نحو لم يحدث في التاريخ الحديث ، لا يتيح فرصة لموضوعية ولا لعقلانية ، لا يتيح أن يقول أحد "تعالوا إلى كلمة سواء" ، لا يتيح أن تؤيد سلطة وتنتقد أخطاءها ، أو تعارض جماعة بمرارة في أفكارها وسياساتها وشخوصها ، دون أن تفقد انسانيتك ، وتطالب بالفتك – على نحو ما يحدث – بأبرياء ، وبقتل حتى من يتعاطف معها ، ولو كانوا زهورا صغيرة ماتزال في مرحلة الثانوي والجامعة . لا يتيح أن تدافع عن وطن يجمع أبناءه دون أن يسلب من قطاع منهم الوطنية.
ومن ثم فإن صحيفة ينبغي أن تتكيف حتى تعيش ، أن تبحث عن مصادر للدعم وتتبني توجها بكل تفاصيله (حتى تلك التي تفارق الوطنية منها ) ، أن تبحث عن لوبيات وشلل وجماعات مصالح ، أما من يتجردون لوجه الوطن ، فلن يرعاهم الوطن ، ولن يساندهم الجمهور ، المستقطب والمشوه الأفكار بفعل آلة دعاية جهنمية تعمل مع السلطة أو ضدها.
هل يجب علي أن اعتذر عن موضوعية ومهنية وتجرد؟ في الأحوال العادية ليس هناك اعتذار بل فخر بالذات ، وأنا أفخر فعلا بماض صنعني بقدر ما صنعته ، ربما أكون – حسب تقديري القابل للخطأ والصواب – من إعلاميين قلائل ، لم يكتبوا كلمة على امتداد حياتهم ، ولم يقولوا حرفا في إذاعة أو على شاشة ، إلا ويعتزون بقوله وكتابته . أنظر ورائي برضا كامل عما كتبت وقلت ، وبغضب كامل عما تسببت فيه من متاعب لأناس لاذنب لهم في اختياراتي الصعبة.
اعتذار واجب لتلاميذ تشددت معهم في المهنية والموضوعية والتجرد ، حتى أصبحوا مطبوعين بها ، وأخشى أن يكون قربهم وتعلمهم سببا لعنت كثيرا مالاقيته ولجحود وتهميش ألاقيه الآن راضيا محتسبا، أعتذر لإخوتي وأبنائي (وأخواتي وبناتي) في "المشهد" عن صعوبة الحياة التي يعيشونها ، بسبب القبض على "جمر الحقيقة" ، وعن صخرة سيزيف التي يحملونها على منحدر ، ما أن يتعب أحدهم حتى يتقدم آخرون بهمة فيوقظون همة الجميع من جديد.
واعتذار آخر لعائلتي الصغيرة والكبيرة ، لناهد صادق زوجتي التي آثرتني على نفسها ، فارتضت بسد مواضع خللي الأسرية ، بديلا عن أن تصبح كاتبة ومترجمة مرموقة أو أستاذة جامعية يشار لها بالبنان ، ولديها كل الإمكانات التي كانت تجعلها كذلك وأكثر ، لولا أنها اعتبرت نجاحي نجاحا لها ، أعتذر لأبنائي فدوى ومحمد وعمر ويوسف على أني لن أترك لهم شيئا غير اسمي ، وهو وإن كان يمثل لهم قيمة سامية ، إلا أن رصيده لن يصرف من بنك ، ولن يعين على مواجهة مشاق الحياة ، أعتذر لأبي واخوتي عن اي تقصير في حقهم ، وعن أي أمل علقوه علي وخاب.
اعتذار أهم لأصدقائي وأساتذتي وتلاميذي وزملائي الذين بذلوا جهدا تطوعيا ، كان كفيلا بأن يدر عليهم مبالغ محترمة ، لكنهم ضحوا به راضين ، في سبيل أن يشاركوا في حفر طريق جديدة تقوم على الصدق والمصارحة والجرأة والموضوعية ، وفي سبيل اشتداد ساعد وسيلة إعلام لا تركع ولا تنحني ، لا تتواطأ ولا تخشى أن تقول " إني أرى الملك عاريا" حتى يستر الملك والوطن عوراته، ويعود لسابق أمجاده.
هل هذه الاعتذارات مراجعة للذات ونكوص عن طريق حفرته لنفسي منذ البداية ، ذلك سؤال وجيه أجيب عليه بالنفي ، بل لإكمال الطريق بنفس الروح التي بدأنا بها، كان ذلك لمجرد إراحة الضمير ، وأردته بلسما لقلوب تعبت بسبب خياراتي الصعبة أقول لهم من خلاله : "أنا أعرف ما تسببت فيه لكم"، وأدرك أنه ثمن صغير لتحد كبير ، تحدي أن تكون مثلما قال درويش "وانطلِقْ كالمُهْرِ في الدنيا ، وكُنْ مَنْ أَنت حيثَ تكون" ها أنا يا صديقي الراحل انطلقت وكنت حسب وصيتك .. ، غير أني أتعبت من حولي ومن بعدي ، فعذرا لهم.