05 - 05 - 2025

اِخْلَعْ نَعْلَيْكَ !

اِخْلَعْ نَعْلَيْكَ !

 

( 1 ) المَشْهَدُ الأوَّلُ:

أسرع طريقة لتحقيق غاية العلم وهي المعرفة طرح الأسئلة المباغتة التي تظل قابعة في الذهن بغير حراك لكن المرء على غوايته القديمة يأبى طوعاً تارة وكرهاً تارة أخرى في الدفع بها إلى الشهود والحضور ، لذا فمن الأحرى مباغتتك أنت بأسئلة الدهشة . ماذا ستسطر في صفحتك الشخصية بكتاب التاريخ الإنساني عن واقعك الثقافي الذي عاصرته ؟ وكيف ستوصِّف ملامح الجيل الزمني الذي تنتمي إليه ؟ وأخيراً هل أتاك حديث الحكمة ؟.

باختصار وبنظرة أكثر سرعة فإن ملامح تاريخك الإنساني القصير أم الطويل الذي تعاصره وسيسطر عنك بعد وفاتك لعله أكثر خزياً وعاراً إلا من رحم ربي ، فبين أفلام سينمائية توثِّق فترة شهودك الدنيوي تتناول موضوعات فجة عن اللواط بين الرجال بغير التزام إنساني أمام العفة والفضيلة ، وكأن القرآن الكريم لم يغير ما بالطباع البشرية من سفه وجهل، ومسلسلات يطلق عليها اسم أعمال درامية مستوحاة من المجتمع لا تجد حرجاً في الحديث عن السحاق بين السجينات وتبادل العشق بين المرأة ومثيلتها في ظل ثقافية إسلامية غاب عنها التنوير ، وبين أغاني مبتذلة وماجنة أحياناً يتراقص عليها الشباب الذين ورثوا عن أبائهم الريادة وصاروا هم في طريق الانهيار ، تداعب الشهوة والغريزة تحت دعاوى الحب والغرام والعشق وكل هذه المضامين ليست بالقريبة من الصورة والكلمة واللحن التي يرددها هؤلاء الشباب.

حتى الجهاد الذي ظل أمراء الخطاب الديني المعاصر يستخدمونه في سياقاتهم اللغوية والمنبرية والافتراضية الإليكترونية على أنه الفريضة الغائبة اليوم استحال معادلاً موضوعياً للتطرف والعنف والإقصاء والإرهاب .

والثورة التي فجرتها أنت وحدك ، وافترشت الميادين ، ونمت مقام جلوسك حال طعامك وقت اشتعالك في وجه الطغيان ، لكن هناك مجموعات من الشباب جاءوا ليتحرشوا بالثائرات والناشطات غير مبالين للحدث الثوري الجلل ، هؤلاء أيضاً هم الذين خرجوا يتتبعون الفتيات وهن يحتفلن ببهجة عيد الأضحى المبارك الذي أعقب يوم الحج الأكبر والوقوف بعرفة مشهد الإنسانية الأعظم غير مبالين بالدين والشعائر والموقف العظيم .

والمشكلة أننا مشغولون تمام الانشغال بالمشهد السياسي والحراك المجتمعي والخطاب الديني الحائر بين التطوير والتجديد ، واللهاث المحموم صوب آخر أخبار تنظيم الدولة الإسلامية ، أو خطط جماعة حسن البنا في إفساد الحياة داخل المجتمع المصري ، وآخرون جلَّ همهم اقتناص مواقف الذلل والخطأ لبعض الشخصيات العامة ، بينما نجد كثيرين من العوام يستهدفون أيامهم في ترقب انقطاع الكهرباء ، أو غياب الرجل المسئول عن توزيع الخبز على منازلهم وهكذا ، رغم أن تاريخنا اليومي ينبغي أن يحفل بأحداث من حقها الحضور بقدر من التكثيف والتشريف.

( 2 ) المَشْهَدُ الثَّانِي :

ووسط هذه اليوميات وغيرها من إحداثياتنا اليومية المكررة والمتتابعة بكلل ونصب وصخب وضجيج ، نقف أمام آيات الذكر الحكيم بمساحات بعيدة وعريضة من الدهشة والتأمل ، ونقول لأنفسنا ذات العبارة التي لا نمل من ذكرها وتبقى خير دليل على إعجاز النص القرآني وديمومته وبلاغته الاستثنائية ألا وهي وكأني أول مرة أقرأ هذه الآية ! . وهذه العبارة التي أصبحت من أبرز تعليقاتنا ونحن نقرأ القرآن الكريم بتمعن لاسيما في المناسبات الدينية كشهر رمضان الذي نتبارى فيه بختم القرآن دونما الاكتراث بتفسيره أو فهم معانيه الجليلة تعزز لدينا يقين أن القرآن بحق هو معجزة الإسلام الخالدة .

وكم من مرة ـ عزيزي القارئ الكريم ـ قرأت أو سمعت قول الله تعالى في كتابه العزيز لنبيه موسى عليه السلام (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى( لكنك لك تكترث بمسألة خلع النعلين التي وردت في الآية الكريمة . ولقد اجتهد كثيرون ولا يزالوا في اجتهادهم لتفسير هذه الآية التي وردت في سورة ( طه ) فمنهم من وقف عند حدود اللفظ اللغوي ولم يتعداه ، ومنهم من أقرن النص بسياقه التاريخي الزمني قاصراً تفسيره عند موسى عليه السلام ، ومنهم من أخذ بالتأويل وغاص في دلالات النص غير الظاهرة .

فالحسين بن مسعود البغوي في تفسيره يورد رأي عكرمة ومجاهد بأن الله تبارك وتعالى أمر موسى بخلع النعلين ليباشر بقدمه تراب الأرض المقدسة ، فيناله بركتها لأنها قدست مرتين ، فخلعهما موسى وألقاهما أما الشوكاني في تفسيره المعنون بـ " فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية " فيقول إن المعنى المراد من الآية أن سبحانه أمر موسى بخلع نعليه ، لأن ذلك أبلغ في التواضع ، وأقرب إلى التشريف والتكريم وحسن التأدب . وقيل: إنهما كانا من جلد حمار غير مدبوغ ،ويردف الشكوكاني قائلاً " ثم علل سبحانه الأمر بالخلع فقال : إنك بالوادي المقدس طوى المقدس المطهر ، والقدس الطهارة ، والأرض المقدسة المطهرة ، سميت بذلك لأن الله أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين " .

وابن العربي في كتابه " أحكام القرآن " يرى أن في الآية الكريمة مسألتين ؛ الأولى ينقلها نقلاً عن سابقيه وهي كانت نعلا موسى من جلد حمار ميت ، أما الثانية وهي رأي ابن العربي الشخصي : إن قلنا : إن خلع النعلين كان لينال بركة التقديس فما أجدره بالصحة ، فقد استحق التنزيه عن النعل ، واستحق الواطئ التبرك بالمباشرة ، كما لا تدخل الكعبة بنعلين ، وكما كان مالكلا يركب دابة بالمدينة ، برا بتربتها المحتوية على الأعظم الشريفة ، والجثة الكريمة .وإن قلنا برواية ابن مسعود ، وإن لم تصح ، فليس بممتنع أن يكون موسى أمر بخلع نعليه ، وكان أول تعبد أحدث إليه ، كما كان أول ما قيل لمحمد (صلى الله عليه وسلم) قوله تعالى ( قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر) .

 ( 3 ) المَشْهَدُ الثَّالِثُ :

وإذا كانت التفاسير جميعها تكاد تتفق في أمر النعلين من خلال التوصيف المادي ، فإن التوصيف المعنوي يحتاج إلى تدبر للمعنى الماورائي أو فوق المعرفي ، فهناك من يرى أن النعلين هما النفس والجسد ، والأهل والمال ، والدنيا وفتنتها ، ولربما أن طاعاتنا تبدو منتقصة بعض الشئ لأننا نذهب إلى الله تعالى ونحن أكثر انشغالاً بأمور الدنيا ومشاغلها ومطامحنا الشخصية التي لا تخرج عن فلك النفس والجسد ، وما أقبح المرء ساعة ما يغدو إلى ربه طوعاً وهم محمل بهواجس النفس وشهوات الجسد فارغاً من روحه ويقينه . وهذا ما أراد به سعد بن عبدالله القمي الأشعري في تأويله للآية القرآنية أي نزع حب الأهل والمال من القلب وإخلاص المحبة لله وحده.

ومجمل اضطراباتنا النفسية وهمومنا اليومية أننا أصبحنا مكبلين بالنفس التي لا تشبع ولا ترتوي الطامعة والجامحة والمتمردة بطبيعتها ، واستحلنا مسجونين تمام القيد بخواطرنا المهتزة والمتأرجحة بين الظهور والخفوت والارتفاع والهبوط .

والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول في حديثه الشريف : " من يرد الله به خيراً يجعل له واعظاً من قلبه " ، الأمر الذي يدفعنا أن نذهب إلى الله تبارك وتعالى مجردين من نفس خبيثة ، وجسد لا يفكر إلا بمنطقه الضيق ، ومسألة خلع النعلين قريبة الصلة بقول الله تعالى في سورة الحج ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) ، ومن هذا الجهاد جهاد النفس وهو المقصود بتزكيتها بأداء الحقوق وترك الحظوظ كما يقول الإمام الآلوسي في تفسيره ، وجهاد القلب بتصفيته وقطع تعلقه بالكونين ، وجهاد الروح بإفناء الوجود .

والحسن بن علي ( رضي الله عنهما ) قال : أفضل الجهاد مخالفة الهوى . وإذا أردت أن تجاهد نفسك عليك أن تتحلى بالمكارم ، وتتخلى عن الرذائل ، وتسير على منهج خير المرسلين ، والعمل بأحكام شريعة رب العالمين ، فاخلع نعليك واقترب فإنك باليقين في طمأنينة بالقرب من ربك .

[email protected]

##

 

مقالات اخرى للكاتب

لجنة بمجلس النواب توافق مبدئيا على مشروع قانون تنظيم إصدار الفتوى الشرعية