أعترف بأنى أعشق المسرح... وبأنى أغبط المسرحيين كما لا أغبط أحدا من المبدعين..وبأن أجواء "الكواليس" المسرحية تأسرنى أكثر مما يفتننى العرض المسرحى ذاته... وأعترف بأنى متيم بالأعمال المسرحية الشعرية لشاعرين بالغى التميز فى هذا الميدان، هما عبد الرحمن الشرقاوى وصلاح عبد الصبور، وإنما قدمت الشرقاوى على عبد الصبور لأن القمة تأتى فى نهاية الهرم دائماً.
المسرح ليس أبا الفنون فحسب بل هو سحر الفن الحقيقى، مزيج مدهش من الموسيقى والكلمات والأضواء والحركات والملابس واللوحات و....و..... فى عمل أوركسترالى بالغ التنظيم بالغ التعقيد بالغ السحر يقوده قائد مذهل بانسيابية لامعقولة ليستخرج من الكلمات طاقاتها الإنسانية اللامحدودة فى عرض حى متجدد كل ليلة.
فتنت بروائع الشرقاوى : "وطنى عكا"، "مأساة جميلة"، "عرابى زعيم الفلاحين" نعم، لكن فتنتى الكبرى لديه كانت فى "الفتى مهران" و"ثأر الله: الحسين ثائرا وشهيدا".
أما صلاح عبد الصبور فزمرداته الخمس ظلت تمنحنى متعة لا حدود لها وهى على الورق، وظللت أتوق إلى أن أشارك فى صوغها على المسرح أيا كانت صورة هذه المشاركة، "مأساة الحلاج" مذهلة، "بعد أن يموت الملك" و"الأميرة تنتظر" متميزتان، "مسافر ليل" تأتى من الوراء العقل، لكننى ظللت أسيراً تام الأسر ل "ليلى والمجنون" ربما لأنها لم تتوسل بالتاريخ ولا بالرمز كما فعلت أخواتها الخمس، وإنما طرحت رؤية درامية محكمة فى بناء شعرى مدهش وفلسفة إنسانية عميقة فى ثوب عصرى حديث.
النفس الملحمى لدى الشرقاوى كان يرتقع أحياناً حتى يزاحم الشعر مكانه، لكنه مع ذلك كان يمنحنا روائع لا تنسى مثل منولوج الكلمة على لسان الحسين الثائر:
أتعرف ما معنى الكلمة؟
مفتاح الجنة في كلمة
دخول النار على كلمه
وقضاء الله هو كلمه
الكلمة لو تعرف حرمه زاد مزخور
الكلمة نوروبعض الكلمات قبور
وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري
الكلمة فرقان ما بين نبي وبغي
بالكلمة تنكشف الغمة
الكلمة نور
ودليل تتبعه الأمة.
عيسى ما كان سوى كلمة
أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين
فساروا يهدون العالم..
الكلمة زلزلت الظالم
الكلمة حصن الحرية
إن الكلمة مسؤولية
إن الرجل هو الكلمة
أما صلاح عبد الصبور فمزجه بين الدراما بموضوعيتها والفلسفة بكليتها والشعر بذاتيته وتفاصيله الصغرى كان عملاً غير قابل للتصديق، ومع ذلك فهو لم يحرمنا منولوجات شعرية بديعة كهذا الذى يأتى فى مأساة الحلاج :
ما الفقر؟؟
ليس الفقر هو الجوع الى الأكل أو العرى إلى الكسوة
الفقر هو القهر
الفقر هو استخدام الفقر لإذلال الروح
الفقر هو استغلال الفقر لقتل الحب وزرع البغضاء”
الفقر يقول : لأهل الثروة :
اكره جمع الفقراء
فهمُ يتمنون زوال النعمة عنك
ويقول لأهل الفقر:
إن جعت فكل لحم أخيك
الله يقول لنا : كونوا أحباباً محبوبين
والفقر يقول لنا : كونوا بغضاء بغاضين
اكره ... اكره ... اكره
هذا قول الفقر!”
وذلك الذى يجرى على لسان سعيد فى ليلى والمجنون تحت عنوان "يوميات نبى مهزوم يحمل قلماينتظر نبياً يحمل سيفاً" والذى يهتف فيه: لا...لا...لا أملك إلا أن أتكلم... يا أهل مدينتنا... رعبٌ أكبرُ من هذا سوف يجيء... فانفجروا أو موتوا !!!