04 - 05 - 2025

زمنك أخضر

زمنك أخضر

لا يمكن الكلام عن ثورة يوليو ودورها في التاريخ المصري دون الكلام عن جمال عبد الناصر. فبعد كل هذه السنين الطويلة ، اتضح ان مسار ومصير ثورة كان اكثر ارتباطا بمسار ومصير جمال عبد الناصر نفسه . فقد خرج من دائرة الضوء والقرار كثير من رجال الثورة ، في حياة عبد الناصر او بعد وفاته المآساوية . وخلود ثورة يوليو في التاريخ المصري والعربي سينافس خلود الثورة الفرنسية في التاريخ الفرنسي والاوروبي . وخلود الثورة سيظل مرتبطا بخلود اسم جمال عبد الناصر .

ان نجاح ثورة يوليو لا يمكن تلخيصه بالصورة الذهنية السينمائية للبطل " يوسف صديق " جالسا على سلم قيادة الاركان  يدخن سيجارته بعد ان اقتحم مبنى القيادة وألقى القبض على كل القادة العسكريين المجتمعين به " بالصدفة " !!! 

ابدا .. كانت ثورة يوليو هي ستارة النهاية على عهد انتهى واحترق مع حريق القاهرة في 26 يناير 1952 . 

حتى هذا التاريخ ، كانت القاهرة  منذ ثورة 1919 زعيمة الشرق العربي ورائدة الثقافة والفنون . كانت ثورة 1919 هي   النفس الأخير لرواد الليبرالية العربية . فلم يكن احد في الشرق العربي يرى منافسا لأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب في الغناء . ولا يجد منافسا لرياض السنباطي وزكريا احمد في الموسيقى . ولا منافسا ليوسف وهبي ونجيب الريحاني في التمثيل . ولا منافسا في الاخراج المسرحي لزكي طليمات وجورج ابيض . ولا منافسا في الاخراج السينمائي لمحمد كريم وهنري بركات . ولا يجد   أحد منافسا في الادب العربي لطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم والمنفلوطي . ولا يجد منافسا في الشعر لشوقي وحافظ وناجي وعلي محمود طه . ولا يجد منافسا في الصحافة لمحمد التابعي وفكري اباظة. 

وجاء زمن عبد الناصر ليكون  نهاية لهذا  العصر بتقاليده وذوقه وملابسه وحساسيته الفنية . 

كان زمن " عبد الناصر " تغيرا جذريا في كل شيء تقريبا . لم تكن الثورة مجرد قرارات بمصادرة اراضي الاقطاعيين ومحاكمات الغدر وقرارات التطهير كما يروج كارهو الثورة . كانت شيئا اكثر خلودا من القرارات والقوانين الادارية . 

فمع نهاية الاقطاع ، بقوانين الاصلاح الزراعي ، كانت الثورة تنهي عصرا كاملا  برموزه واشكاله . لم يكن الغاء الالقاب والرتب ، مجرد قرار . كان نهاية لحقبة الاستعمار التركي والطرابيش والالقاب .. الحقبة التي تصنف المواطنين الى نبلاء وشحاذين . كانت نهاية لذوق موسيقي كلاسيكي والانفتاح على نمط موسيقى آخر ، أكثر سرعة وانفتاحا على العصر  ..مثلته  ألحان وموسيقى محمد الموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي . وانتقلت السينما من رومانسيات حسين صدقي وليلى مراد  وجيلهما  من سينما الخطب والوعظ ، الى رومانسية من نوع آخر يمثلها عبد الحليم حافظ  واحمد رمزي وعمر الشريف وفاتن حمامة وشادية ولبنى عبد العزيز وزبيدة ثروت. 

وكان فن الرواية والقصة القصيرة لتقليدية للمنفلوطي وتيمور  يخلي الطريق لجيل من الروائيين الجدد سيلمع اسمهم في ذلك الزمان كنجيب محفوظ ويوسف ادريس ويوسف السباعي واحسان عبد القدوس وغيرهم . اما المسرح فقد كان يشهد مع نهاية حقبة الاقطاع نهاية شخصية " كشكش بيه "  لنجيب الريحاني، أي  شخصية غني الريف الذي يضيع امواله على الملاهي والغواني في العاصمة  ، أو شخصية " عثمان عبد الباسط "  النوبي الاسمر ابن الشعب المغلوب على أمره والذي لا يحصل على حقه إلا بالحيلة والمكر وخفة الدم. لكن مع الثورة ،  فتحت قاعات المسرح للشعب ليشاهد فكرا جديدا مخالفا لميلودراميات يوسف وهبي الخطابية او تراكيب توفيق الحكيم الذهنية والفلسفية  المتعالية . وسينفسح المكان لجيل مسرحي  جديد مهتم بالشعب ومشاكله وتاريخه يمثله شباب جدد  تفاعلوا مع الروح الثورية كنعمان عاشور والفريد فرج وسعد الدين وهبة ونجيب سرور وسعد اردش وكرم مطاوع. وفي الفن التشكيلي ، ستلهم معارك الثورة في القناة ومعركة السد العالي جيلا كاملا من الفنانين فيهجرون مراسمهم ويلتحمون مع الشعب في اسوان يرسمون ملحمة بناء وعرق الشعب البسيط في معركته مع الطبيعة ومع النيل. حتى النظرة للمرأة قد تغيرت . فمن زمن المرأة الضعيفة مهضومة الحقوق والتي صورها " محمد حسين هيكل " في رائعته " زينب " ، سنجد امرأة جديدة اكثر جرأة وجسارة في " أنا حرة " لإحسان عبد القدوس ، " الباب المفتوح " للدكتورة لطيفة الزيات ، واللذان يناقشان حق الفتاة في الاختيار والتعليم . لنصل مع نهاية الستينات ..أي في  اقل من 15 سنة ، ان تناقش السينما وضعا بات ممكنا في " مراتي مدير عام " . 

كان زمن عبد الناصر تغييرا في الذوق والملابس  من زمن الطربوش والجلابية والحفاء ، الى زمن جديد اراد ان يطور من الازياء والملبس وطريقة الكلام وطريقة تبادل التحية  . ووصلت الرغبة في تغيير التفكير والذوق الى ابعاد اكثر عمقا في مناقشة الموروث الديني والاجتماعي التقليدي عبر السينما السينما والمسرح والاغنية والمونولوج . حيث باتت هذه الفنون تناقش موضوعات جريئة كميراث البنات في " السفيرة عزيزة " او التحايل على الدين والشريعة كما في " الزوجة التانية " . أو القهر على الفتاة في الريف والصعيد كما في " البوسطجي " . حتى ابناء الباشوات صار واجبا ومحتوما عليهم ان يتغيروا كما تغير كل المجتمع الى قيم جديدة تعلي  من قيمة " العمل " ويحارب  العاطلين بالوراثة ..وهو ما جسده ببراعة فنية توفيق الحكيم في " الأيدي الناعمة ". وحدث نفس الشيء في الشعر والنقد الادبي ، فقد انتهت ، تقريبا ، مرحلة الشعر الكلاسيكي وانفتح المجتمع على الوان جديدة من الشعر لصلاح عبد الصبور ونجيب سرور ومحمد ابراهيم ابو سنة وفاروق شوشة وفاروق جويدة وغيرهم  .. وحدث نفس الشيء مع الزجل فقد انتهت تقريبا حقبة بيرم التونسي وانفتح المجال لفؤاد حداد وصلاح جاهين والابنودي وغيرهم . وتغيرت مفاهيم النقد الادبي مع نقاد جدد كالدكتور محمد مندور وعلي الراعي ومحمود العالم ورجاء النقاش وغيرهم .

 وفي الصحافة ، ظهر جيل جديد من الشباب تعلقت بهم طبقات الشعب المختلفة كمحمد حسنين هيكل واحمد بهاء الدين ومصطفى بهجت بدوي واحمد بهجت وصلاح حافظ  . وغزى فن الكاريكاتير الصحافة الجديدة من مجلات وصحف . فمن يستطيع ان ينسى صاروخان بعبقريته في التعبير عن الفقراء .. او صلاح جاهين في بساطة خطوطه وعمقها ..او رسوم بهجت عثمان في فلسفتها الاجتماعية ..او صدق " زهدي " و حجازي ورخا.

واليوم ونحن نحيي ذكراك يا " عبد الناصر " ..نتذكرك ..ونتذكر عصرك ..ونشعر بطعم ومذاق زمنك على ألسنتنا .. فزمنك لازال " أخضرا" .

##

##

مقالات اخرى للكاتب

عبد الناصر.. وحكم العسكر .. الحقيقة والوهم !!!