بداية لابد أن اعترف باننى من محبى عبدالناصر بل ومن عشاقه.. تفتحت عينى على صورته واذنى على صوته وكلماته التى كانت تغزو القلوب وتنزل عليها بردا وسلاما.
فى سنوات طفولتى الأولى كنت وكل أبناء جيلى فى عابدين وما جاورها نلعب ونمرح فى حديقة (جنينة) الملك التى كانت جزء لا يتجزأ من قصر عابدين، وكنا نقضى الكثير من الامسيات خاصة الصيفية نلعب ونمرح ونتسامر فى المدخل الرخامى الرائع لقصر عابدين تحت شرفة القصر الشهيرة التى تكلم منها ناصر وانور السادات وبحواره الشيخ محمد متولى الشعراوى رحمة الله عليهم جميعا، وعلى مدى سنوات الطفولة كنت انتقل من حارة السقايين التى افتخر باننى ولدت ونشأت وترعرعت فيها ( بلغة السينما) إلى ميدان عابدين لمتابعة الاستعدادات التى تتم للاحتفال بذكرى ثورة 23 يوليو والأهم بالنسبة لى كطفل لمتابعة الاستعدادات للعروض العسكرية...لذا لطالما رأيت عبد الناصر فى ميدان عابدين فى سيارته المكشوفة يحيى الناس..رأيته فى احدى المرات مع الرئيس الجزائرى الأسبق أحمد بن بلة وبالطبع كنت طفلا وبالتالى كنت انظر لعبدالناصر بلا اى رهبة.
المشهد الذى لا أنساه فى ميدان عابدين أيضا مظاهرات التأييد لعبد الناصر والتى تدعوه للحرب وتعد باللحاق به فى تل ابيب....ومشهد امتلاء الميدان عن آخره دقائق فقط بعد إعلان عبدالناصر تنحيه.....وفى عام 1969 -وكانت حرب الاستنزاف على أشدها بعد أن رفع ناصر شعار ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة-وعلى مقربة من ميدان عابدين رأيت عبدالناصر يغالب دموعه تحت النظارة السوداء وهو يتقدم جنازة الفريق عبد المنعم رياض الذى استشهد وهو بين جنوده وضباطه على خط القناة.....أما المشهد الأكثر ايلاما فهو السرادق الذى غطى كل ميدان عابدين لتقبل العزاء فى ناصر..... عزاء المصريين لأنفسهم وبعضهم البعض...وكان يتناوب على قراءة القرآن الكريم كل عمالقة التلاوة من أمثال الحصرى والبنا ومصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد رحم الله الجميع
وعلى مقربة من ميدان عابدين وشارع مجلس الأمة وجامع الست مسكة تعلمت فى مدرسة زهر الربيع الابتدائية التى بناها جمال عبد الناصر والتى لم تقع منها طوبة واحدة فى زلزال 1992،وقتها كان التعليم على اصوله وبالمجان فعلا لا قولا ......وفى حارة السقايين احتفلنا بتكريم ناصر لابن الحارة فوزى سليمان ، بطل مصر فى الملاكمة بعد فوزه ببطولة أفريقيا ومنحه لقب أفضل رياضى للعام (سامحونى نسيت أى عام غالبا 1963 أو 1964) ومنحه مكافأة مالية قدرها 1000 جنيه عدا ونقدا ( وقتها كان الجنيه كالجبل الاشم وكان يناطح الدولار والاسترلينى)
جمال عبد الناصر اسم تحول إلى مرادف للأمل عند ملايين المصريين.....الامل فى الحياة بكرامة....الامل فى الارتقاء بالتعليم والعمل......ايام عبدالناصر كان من يجتهد فى التعليم يضمن تحسن حياته بالحصول على وظيفة ( وقتها لم يكن أحد يتحدث عن العلاقة بين الوظائف والمراكز الاجتماعية) طبقا لقدر اجتهاده.......وقد سمعت وزير الثقافة الحالى دكتور جابر عصفور يحكى انه تم تجاوزه فى التعيين كمعيد بكلية الآداب جامعة القاهرة لصالح من هو أقل منه فى الدرجات فامسك ورقة وقلم وكتب وهو منفعل لعبد الناصر ما معناه وعدتنا بالعدالة فأين هى ؟ ويستطرد جابر عصفور الدنيا قلبت....تحقيقات مع رئيس الجامعة والعميد. ....والخلاصة عاد الحق لأصحابه وعين عصفور بالكلية......
أعود لحارة السقايين ومشهد لا يمكن نسيانه....الدموع تنساب من وجوه المئات الذين يحملون صور عبد الناصر ويرددون الوداع يا جمال يا حبيب الملايين الوداع بنغمة حزينة وضعها العقل الجمعى للشعب...إضافة لهتاف فى 9، 10 رجعنا وفى ليلة الاسراء ودعناك (رحل عبدالناصر فى مثل هذه الأيام من عام 1970)
44 عاما مرت على رحيل أبو خالد رحمة الله عليهما..... ناصر حبيب الملايين ...غاب جسدا لكنه مازال حاضرا فى قلوبنا......لم يكن ملاكا ولا شيطانا لكن المؤكد أنه أخلص لمصر واجتهد فاصاب وأخطأ....والمؤكد انه عاش ومات طاهر اليد......سيظل ناصر رحمه الله الغائب الحاضر.
##