بدأ الموسم الدراسي في نسخته الجديدة بجميع مدارس مصر ومعاهدها الأزهرية وبانتظار مرتقب عودة الحياة التعليمية بمؤسساتنا الجامعية التي ظلت طيلة عام دراسي كامل رهن التظاهرات السلمية وغير السلمية مما أدى إلى توقف جريان مياه العلم بمدرجاتها ولم نكترث بأننا قدمنا للوطن طبيباً غير مكتمل ومهندساً بدون أدواته الهندسية ومعلماً بغير قلم ودفتر وهكذا ، لكن هذه المرة المصريون يأملون في عام دراسي مثمر ومنتج لأبنائهم بغير توقف أو عرقلة في سير قطار التعليم الذي لا يزال يواجه ألف مشكلة ومشكلة تكاد تكون جميعها أكثر إثارة وتشويقاً من الليالي الألف لبطليها شهريار وشهرزاد ، إلا أن الواقع والشهود يغلبان التخييل والنهايات المفتوحة في ليالي ألف ليلة وليلة ، ذلك لأن ليالي التعليم ينتفي منها الخيال ومن ثم الإبداع والابتكار كما تختفي الشخوص والحبكة الدرامية أيضاً.
وبمجرد الإعلان عن استعداد الدولة للموسم التعليمي الجديد بدت المشكلات المزمنة في الظهور مجددا على سطح المشهد التعليمي ، إضافة على ثمة مشكلات يمكن توصيفها بأنها من مكتساب الثورة المصرية بوجيهيها الإيجابي والسلبي . ففي الوقت الذي تسعى فيه كافة الدول والمنظومات التعليمية إلى توجيه التعليم توجيهاً وظيفياً لا يزال وجه التعليم في مصر يعاني من أمراض تفقده الحسن ، نجد كبار المسئولين عن المنظومة التعليمية يصدرون أوامرهم القطعية واجبة النفاذ بعدم الحديث في السياسة نهائياً داخل المدارس والمعاهد ، مع التلويح بورقة العقاب الرادع لكل من تسول نفسه إلى تناول أحداث المشهد السياسي الراهنة بين زملائه من العاملين بالمدرسة أو بينه وبين طلابه رغم أن السياسة اليوم أصبحت هي القاسم المشترك ولغة الحوار التي تجد اتفاقاً بين الطلاب بدليل أنك لو أرهقت نفسك بالاستماع إلى محاولات أبنائك مع أقرانهم لوجدتهم يجيدون الحديث في السياسة وتحليل إحداثيات وتفاصيل الحراك السياسي والاجتماعي ربما أفضل بكثير من أولئك الذين يفرضون أنفسهم علينا ليل نهار على الفضائيات الفراغية التي ملأت حيواتنا ضجيجاً بغير متعة أو إمتاع.
لكن المسألة بالفعل لا تقف عند حدود تصريح وزير التعليم أو تصريحات المسئولين عن قطاع المعاهد الأزهرية بمنع الحديث في السياسة لأنها تعدت فتنة الكلام واستحالت واقعاً وميداناً وثورة وخلع ثم ثورة أخرى فعزل ، بل هناك أمور شائكة تظل تمثل العائق الأكبر أمام وزارة التربية والتعليم التي لا يزال الحقوقيون والمهتمون بذوي الاحتياجات الخاصة غاضبين من رد فعل وزيرها الدكتور محمود أبو النصر حينما غادر الاحتفال الرائع والرقيق الذي أقيم لمرضى مستشفى سرطان الأطفال عندما أخطأ مقدم الاحتفال في نطق اسمه ، وأول تعليق لي حول هذه الحادثة كان علامة دهشة كبيرة وواسعة ملأت وجهي ، فكيف يمكن لشخص نسي إنسانية الموقف الذي فيه ، وغفل عن هؤلاء الطلاب المتفوقين الذين يعانون أقسى أنواع المرض والشدة ويتركهم لمجرد أنه محمود أبو النصر وليس محمد صابر ، أن يتولى أمر أبنائنا وأطفالنا وهو يفتقد الإنسانية ، ولربما نترك له عذراً آخر لا يعلمه القاصي والداني لكن ذنبه لم يغتفر بدليل أن رئيس وزراء مصر المحترم المهندس إبراهيم محلب قام بتكليم أبنائنا بل وقام بتقبيل رؤوسهم .
وهذا ما فعله أيضاً رئيس قطاع المعاهد الأزهرية الذي ملأت تصريحاته كافة الصحف واعتلت توجيهاته المواقع الإليكترونية مشدداً بعدم جواز الحديث في السياسة مطلقاً وكأنه يتضامن مع وزير التربية والتعليم معلنين معاً أن زواج التعليم من السياسة باطل شرعاً . وبحكم منصبهما يمكن لهما اتخاذ هذا القرار الذي يريانه صائباً ووجيهاً في هذه الفترة الراهنة والمضطربة والغائمة سياسياً ، لكن هناك أموراً أكثر أهمية وضرورة ينبغي الاهتمام بها لأنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً ببناء هذه الأمة وهي بالأحرى مشكلات تعليمية لو تم إهمال حلها وتذليل صعوباتها لقوض الوطن .
ويبدو أن المشرفين على قطاع المعاهد الأزهرية نسوا أنهم بصدد كارثة يعاني منها المجتمع المصري وهي أزمة الخطاب الديني الذي بحاجة حقيقية إلى تطويره ومواكبته لفقه العصر ، وأن هذا الخطاب الذي تم اقتناصه لسنوات بعيدة على أيدي بعض المرتزقة والمتاجرين بالدين ونخاسين الفضائيات لا يحتاج فقط إلى عمليات ترميم ، بل إلى مراجعات دقيقة وتنقيته من المفاهيم الدينية المغلوطة التي رسخت بأذهان الطلاب بالمعاهد الأزهرية ، ولقد آن الوقت لإعادة تأهيل المعلمين ومراجعة الكتب الدراسية والمناهج المقررة على الطلاب لاسيما المرحلة الثانوية.
فخلال عام كامل ووزارة التربية والتعليم تذيع أنباء تتعلق بمراجعة الكتب المدرسية ، وتطويرها من خلال ثلاث قنوات قاصرة من وجهة نظر القائمين على التعليم في صورته الأكاديمية ، وهي إما بالحذف أو الإضافة أو التعديل ، وكم من مرة صعد وزير التربية والتعليم على سطح قمر القنوات الفضائية معلناً أنه استطاع كسر الرتابة والملل والحشو الزائد والزائف في المقررات الدراسية ، ومشكلة المسئولين الحقيقية لاسيما في مجال التعليم قبل الجامعي أنهم يعتقدون أن حديثهم موجه فقط لأولياء الأمور المهمومين بالبحث عن لقمة العيش ، أو بغير المكترثين بالمنظومة التعليمية ، ولأننا بالفعل بدأ في أولى أحداث الجريمة الدراسية الكاملة فور بدء الدراسة ، كان يمكن لوزارة التربية والتعليم أنها أمام مشكلة تتعلق بالمناهج الدراسية ، فالكتاب المدرسي الذي يتحدث عنه الوزير هو وسيط معرفي فحسب ولا يعد سوى بضع صفحات معرفية لا تحيط بالمعرفة أو لا تسع إلى تنمية شاملة متكاملة للطالب الذي صار يحجز مقعده في الفصل عن طريق ربط حقيبته التي تشبه خزانة الكتب بالجنازير .
فحينما يخبرنا الوزير بأن أزال كل أثار الاستعمار الإخواني من بين ثنايا الكتب المدرسية ، فإن رأي الشارع سيوجه له التحية والتقدير لمجهوده الذي وافق الحراك السياسي ضد الجماعة وتنظيمها الذي سعي إلى اقتناص الدولة والتحكم في مفاصلها ، لكن يقي السؤال المحتدم الذي لايزال يبحث عن إجابة شافية :هل أعدت الوزارة خطة استشرافية بديلة وعاجلة تعكس الواقع الراهن للطلاب ، وتمكنهم من امتلاك مهارات تفكيرية تجعلهم يميزون بين الحق والضلال أو بين الصواب والخطأ المعرفي والسياسي والاجتماعي ؟ . ويمكن أن يفاجؤنا الوزير أو أحد رجالات التعليم في الوزارة بأنهم أعدوا خطة استشرافية بالفعل ، وهذا أمر وارد ومقبول ويمكن تصديقه لأننا بالفعل مؤهلون لذلك ، لكن ما مدى مساحة الأنشطة المدرسية غير الصفية التي تسمح بتحقيق أهداف هذه الخطة التي لم يعلن عنها لشركاء المؤسسة التعليمية الحقيقيين وهم الطلاب أنفسهم وأولياء أمورهم أم أن الوزارة تتعامل معهم على السواء بمنطق هكذا تورد الإبل ؟ .
وحينما يبتعد الطالب كرهاً عن الفعل السياسي الشرعي والطبيعي بغير انتماءات سياسية موجهة اللهم سوى الانتماء للوطن الكبير مصر العظيمة ، فهو حينما يهرب من المدرسة ليس بمعنى التسرب الدراسي لكن بانتهاء اليوم الدراسي الرسمي الذي أعلن أنه سيكون مجرد احتفالات وكرنفالات لمدة خمسة عشر يوماً وهو أمر يدعو للدهشة والغرابة لأن مصر اليوم تبني وتشيد ورئيسها المشير عبد الفتاح السيسي يؤكد يومياً على ضرورة وأهمية العمل الجاد بل إنه ضم مجموعة رائعة من المستشارين العلميين المرموقين ضمن مجلسه الاستشاري في الوقت الذي تعلن فيه الوزارة بأنها بصدد جعل أسبوعين كاملين للاحتفال وكأن التعليم في مصر لم يسمع أن مصر اليوم في معركة حقيقية من أجل بقائها وهي تبني وتحفر وتزرع وتقاوم إرهاباً أسود . بهذا الانتهاء اليومي للدراسة سيعود الطالب لمنزله وهو فريسة يومية للقنوات الإعلامية والمواقع الإلكترونية التي لا رقيب عليها سوى الله عز وجل ، وهو بذلك يصبح وحيداً أمام أمواج عاتية ، لذا فكان من الأحرى اهتمام الوزارة بالإعلان عن أنشطة بديلة تقدمها المدرسة لا يمكن اختزالها بأي حال من الأحوال في كتاب ورقي يسمى القيم أو المواطنة أو أي اسم آخر ، بل ينبغي استثمار هذا التوجه المستعر حقاً لدى طلابنا نحو متابعة أخبار المشهد السياسية من أجل التوعية الوطنية وحثهم على المشاركة في بناء الوطن بطرق تتوافق مع مستوياتهم العمرية وقدراتهم الحقيقية .
في الوقت الذي كنا نتمنى أن تعلن وزارة التربية والتعليم قبيل بدء الدوري الدراسي مواصفات المناهج الدراسية وموقعها بالنسبة للمجتمع الذي تطور تطوراً سريعاً وغريباً هذه الأيام ، لكن تظل العقلية المتوارثة داخل المؤسسات التعليمية بغير تغيير رغم أن القائمين عليها يهرعون نحو تغيير المقررات وتعديل مواعيد الاختبارات التي تسمى الامتحانات في مصر وحدها إصراراً منهم على جعل قياس أداء الطلاب محنة حقيقية وليس وسيلة للكشف عن مستوى أداء ومعارف واتجاهات الطلاب من أجل تنميتها أو علاج أوجه الضعف والقصور بها . لذلك يمكن توصيف المناهج الدراسية منذ عقود حكم مبارك بأنها مناهج انتقائية وليست إثرائية ، وهذا يعكس حجم ومدى الخلل التعليمي في المنظومة التعليمية كلها ، ويبدو أن القائمين على أمر التعليم منذ سنوات بعيدة قد استمرأوا انتقاء النماذج التعليمية التي تصلح أو قد لا تصلح مع أبنائنا في الوقت الذي ينبغي فيه تشخيص واقعنا التعليمي الراهن ثم علاجه ثم تطويره وأخيراً خلق منهج إثرائي جديد يتلاءم مع ظروفنا وأحوالنا وإمكاناتنا وقدرات طلابنا .