03 - 05 - 2025

" حابي " المتأنق الطيب

لابد أنه فعلها في مثل أيامنا هذه ؛ حين يحنو الطقس وتَحلو ساعة العصاري ، فيحمل زاده من الخيال والسحر والعطر والظلال ، ليطيل النظر إليه فتنجلي هموم نفسه وضيقه ، يترقب " حابي " وهو يمر محتضنا بلدته " النخيلة " يتسمع أسراره ليفشيها لنا محمود حسن إسماعيل شاديا : سمعت في شطك الجميل .. ما قالت الريح للنخيل .. يسبح الطير أم يغني .. ويشرح الحب للخميل .. وأغصن تلك أم صبايا .. شربن من خمرة الأصيل .. آه على سرك الرهيب .. يا واهب الخلد للزمان .. يا ساقي الحب والأماني .

القدامى المصريون عشقوا الإله "حابي" وقدسوه ، على هيئة رجل قوي البنية بارز الصدر ضخم البطن دليل خصوبته ؛ هكذا شبهوا نيلنا الحاني العظيم مصدر الخير والحياة ، جعلوه متقلب المزاج ؛ فمرة يرضى فيأتي فيضانه مناسبا ، ومرة يغضب فيغرق الأرض أو يهددها بالمجاعة ، ولإرضائه نحروا الذبائح وقدموا العطايا وأقاموا احتفالات وفائه ، فوفاء النيل تعني أن مياهه وافية كافية ، أما أسطورة عروس النيل فلم يثبت صحتها ، والبعض يؤكد أنها انتسبت بالخطأ للمصريين ، لأن الثابت تاريخيا أن ديانة المصريين لم تكن تسمح بتقديم قرابين بشرية .

  وفي ليلة قاهرية مملوكية مهيبة باذخة الاحتفاء ؛ تخرج " دهبية " سلطان مصر تتهادى على صفحة النيل من "بولاق" مزدانة بالورود والأعلام حتى " فم الخليج " محاطة بمراكب الأمراء والمماليك والعامة  مصحوبة بالطبول والمزاميروالأغاني ، حتى يصل السلطان بمعوله الذهبي فينقر سد الخليج ثلاثا معلنا بدء الحفر لتجري مياه الفيضان في منطقة "مجرى العيون" وتبيت القاهرة ليلتها في الشوارع والطرقات المضاءة بالقناديل والشموع والعامرة بموائد " السماط " تحمل أشهى الأطعمة والمشاوي والحلوى والفاكهة هدية من الأمراء للرعية ابتهاجا بفيضان النيل .

 بهذه العظمة والمهابة متع المصريون نيلهم قداسة واحتراما وتقديرا ، ولم يكن هذا بغريب على نهر جاء بالسنة الصحيحة أنه من أنهار الجنة ، ذلك الذي احتضن موسى عليه السلام مطمئنا قلب أمه ، وهو نفسه الذي تحول لنهر من دم آية من المولى لفرعون وملائه – تحذيرا - لحاكم ظلم المصريين ، ولأنه عبقرية الزمان والمكان وإبداع الخالق الوهاب المنان ؛ والنهر الوحيد بالعالم الذي يزداد ماؤه في أشد ما يكون الحر حين تنقص جميع أنهار الدنيا وعيونها .

  لم يكن غريبا على أمير الشعراء أحمد شوقي قوله : النيل العذب هو الكوثر .. والجنة شاطئه الأخضر .. ريان الصفحة والمنظر .. ما أبهى الخلد وما أنضر، ومع انسياب مياهه تنساب أعذب الأنغام وأرق الكلمات لأطول أنهار الدنيا قاطبة ، فيقف شاعرنا متعجبا متسائلا : من أي عهد في القرى تتدفق؟ وبأي كف في المدائن تُغدق؟ ومن السماء نزلت أم فُجرت من .. عُليا الجنان جداولا تترقرق؟ وبأي عين أم بأية مُزنة .. أم أى طوفان تفيض وتَفهق؟ وبأي نَول أنت ناسجُ بُردَة .. للضفتين جديدُها لا يَخلَقُ؟  

وعجبا لنيلنا حين يصطبغ ألوانا تختلف باختلاف فصول السنة بل وباختلاف مواقيت اليوم الواحد ؛ فتارة تجده ذهبي اللون وتارة أخرى فضيا ومرة رماديا ومرة ثانية أزرقا ، وفي الليل أسودا متلألئا " في كل آونة تُبدل صبغة .. عجبا وأنت الصابغُ المتأنقُ " كما أصدقنا شوقي ، ولأنه قلب الوجود وفتنة الكون وخمر فرعون ونشيد فخارنا ومُجري النعم لمصرنا الذي شابت على أرضه الليالي وضيعت عمرها الجبال ؛ وهو الفتى اليافع في عنفوانه .. تراه ماذا يقول عن أحفاد الفراعنة اليوم بعد أن اعتلاه الشحوب والإهمال والتلوث من شعب استمد جماله وطيبته من جمال وطيب فيض نيله ؟!   

##

##

مقالات اخرى للكاتب

(اعترافات قرصان اقتصادي)