هل يمكن لامرأة أن تهجر رجلاً عاشت معه 18 عاماً لأنها تعبت منه وتريد أن تشعر بالتحرر من عبء العلاقة به ؟ هل يمكن لهذه المرأة أن تعود لتموت من الغيرة بعد ستة أعوام من انفصالها عن ذلك الرجل لأنها عرفت علاقته بأخرى؟ لماذا وصل الأمر بها إلى درجة أن هذه المرأة الأخرى قد احتلت عقلها وجسدها حتى أصبحت تفكر بها بهوس مريض وتلاحق اسمها وتاريخها وتتخيل الأشياء العادية واليومية وحتى السخيفة التي تفعلها مع زوجها في كل لحظة..! إنها تكاد تجن لأن فرشاة أسنان هذه المرأة تتشارك الكأس نفسه مع فرشاة أسنان زوجها أو من كان زوجها ؟ إلى هذه الدرجة وصل بها التفكير في أدق التفاصيل ولأن الأمر وصل إلى هذا الحد فقد خرج عن كونه مجرد غيرة إلى حالة احتلال حقيقية تمارسها تلك المرأة الأخرى التي حلت مكانها في حياة زوجها!
“الاحتلال “ هو العنوان الأكثر دقة - وليس الغيرة- للرواية الأحدث للكاتبة الفرنسية المعاصرة “ آني إرنو “ التي تشكل علامة فارقة في المشهد الثقافي والإبداعي الفرنسي والتي ينتظر قراؤها حول العالم آخر ما تجود به قريحتها بفارغ الصبر لأنهم يعلمون تماماً أن هذه الروائية لا تدفع لهم بعمل عادي أو متداول، بقدر ما تضعهم في كل مرة تدفع فيها بعمل جديد أمام صدمة فكرة تبدو لصغرها غير جديرة بالالتفات، في حين تتحول في ماكينة إرنو الابداعية إلى عمل لا يمكنه سوى أن يختطف الانتباه، ويسيل حبرا لأحد له من أقلام النقاد ومحرري الأقسام الثقافية في صحف العالم، وفي روايتها الصغيرة جداً “الاحتلال” والتي لا تتجاوز الستين صفحة فإن الغيرة القاتلة المدمرة هي المحور والفكرة التي تدور حولها وسوسة وتخيلات الراوية التي تطلقها في سرد أقرب إلى السيرة الذاتية !
عرفت عن الرواية بطريق الصدفة حين حدثتني عنها الروائية الكويتية فوزية شويش السالم التي التقيتها هنا في إجازتي الحالية التي أقضيها في التشيك، ثم قرأت عنها العديد من المقالات، لكن مجرد أن تتموضع الرواية بين يديك فإن حجمها الصغير جداً يوقعك في الالتباس، فأي رواية تثير كل هذه الضجة وهي لا تكاد تتجاوز الستين صفحة ؟ نحن الذين اعتدنا على فكرة أن الرواية لا تكون رواية إلا إذا تجاوزت صفحاتها الثلاثمائة صفحة ، إلا أن “آني إرنو “ أستاذة فن الاختزال وتكثيف المعنى بلا منازع، فإنت معها في كل وساوس وقلق روحها المحتلة تماماً بتلك المرأة الأخرى، لا يكاد يفوتك أدق الأفكار الكبيرة والصغيرة والتافهة والسخيفة وحتى المبتذلة، دون ترهل أوحشو وثرثرة، من ذلك الذي يجعل صفحات كثير من الأعمال الروائية متشابهة حد الملل.
الفكرة الأكثر روعة والتي جعلت المرأة التي تسرد حكاية احتلالها من قبل غريمتها التي احتلت مكانها في حياة زوجها هي أنها في البداية اتبعت طريقة الجواسيس في تعقب خطوات غريمتها - التي جعلتها هي غريمتها في الحقيقة - ولكنها تنتبه لأمر أثار دهشتها وهي أنها كانت تدون كل ما تفكر فيه وكل ما يخطر ببالها حول تلك المرأة ، وتدريجيا أحست بأن ذلك التدوين يستهلكها ويستثيرها لدرجة أنها تخلصت بواسطته من جنونها بتلك المرأة، لقد تناست اسمها وملامحها وجرحها الغائر في عمق قلبها جراء فقد زوجها لصالح امرأة أخرى، صارت تمعن في الكتابة لتنسى وتستشفي بها، أكثر من كونها تكتب لتحفظ ذاكرتها أو ما تمر به وهو ما أطلقت عليه الكاتبة مسمى الاستشفاء بالكتابة.