31 - 10 - 2024

عندما يكون للعاطفة إيقاع ... !

عندما يكون للعاطفة إيقاع ... !

" اندريا رايدر"... اسم لا يعرفه الكثيرون رغم كونه " أيقونة " لن تتكرر فى عالم التلحين والتوزيع الموسيقى ... استبدل اسمه لدى الجماهير بروائع موسيقاه التصويرية لأشهر وأروع أفلام السينما المصرية ومنها  ( دعاء الكروان ، أغلى من حياتى ، الحب الكبير، نهر الحب ، بين الأطلال ، اللقاء الثانى ، المراهقات ) وذلك على سبيل المثال لا الحصر .

ويأتينا شهر مارس مُداعباً ذكرى رحيل هذا (الرائع) ، فقد رحل عن عالمنا فى الخامس من مارس لعام 1971.. والواقع أن (رايدر) لم يحظِ باحتفاء لائق فى ذكرى رحيله رغم إبداعه المتفرد الذى لم يتكرر ، فظل يوثق طيلة مشواره الفنى نظرية عشق (القيمة للقيمة)، فكان كالراهب فى محراب النغم ، يصوغ إبداعه على طريقته المترفعة ويتجلى فى جُمَلِه الموسيقية لدرجه أذابت كينونته بداخلها ....

 وأجد أنه لِزاماً علىَ باعتبارى من عشاق فنه الراقى أن أمُر وألقى التحية على تراثه الثمين وأضع ذلك الأكليل من الورود ، بل وأتشرف أن أصطحبكم أعزائى القُراء فى رحلة مع أنغام هذا " العملاق الحانى"  ...!

بدايةً فهو يونانى الأصل ، عشق مصر وعاش عمره كله على أرضها وانخرط فى حناياها حتى اخرج موسيقاه بصورة تختلف عن أى تيمة موسيقية أخرى يمكننا سماعها، فقد صهر أصالة المقامات الشرقية مع سحر الوتريات اليونانية ليُخرِج لنا عزفاً نتعجب من مذاقه، فإذا ما حلِمنا باستشعار (روح) الموسيقى، علينا بإبحار مع أنغامه العميقة وغوص بانفعال آلاته. فكانت موسيقاه تجيد قراءة النفس البشرية وما يعتريها من منحدرات حرجة .. سهول خصبة .. وديان ضيقة .. قمم شاهقة.. جناديل عذبة وبحار كافرة الملوحة . كان بارعاً فى قراءة المُتلقى وفى التعبير الموسيقى نيابةً عنه واصفاً انطباعاته وانفعالاته بالأحداث والعقدة الدرامية عبر الألحان .

وإذا ما أبحرنا مع " رايدر " عبر ألحانه الشجية شديدة الثراء الإبداعى ، سنجدها بالطبع مألوفة ، فهى لأشهر أفلامنا الخالدة فى تاريخ السينما المصرية، ولكن علينا أن نعيد سماعها تلك المرة بعد أن نجوب أركان أسرارها لعلها تفضى بإبداع صاحبها.

فماذا عن رائعة  " دعاء الكروان " ؟  تلك الملحمة الغجرية داخل مجتمع منغلق يأتى من ربوع الصحراء المصرية الى الريف حيث يبدو لساكنيها وكأنهم أمام "صندوق الدنيا " فقد سجنتهم معطياتها الجافة فى أفاق محدودة وجعلتهم يندهشون من تحضر ذلك الريف مقارنة بخشونة البادية .

 لن استفيض فى تفاصيل القصة ، ولكن سأتوقف عند تأوهات ألحان البارع (رايدر)  طيلة الأحداث، وذلك الارتفاع الموسيقى الشاهق مع مشهد وأد (هنادى) بخطيئتها تحت رمال صحراء مقفرة وشهادة نخيل أبكم أصم لم يستمع لتوسلات الكروان الشارد لحظة مفارفتها للحياة، وارتباك الموسيقى لحظة غياب (آمنة) عن الوعى فى مرارة مفارقتها لأغلى من لديها، وموسيقى البادية الباكية عندما تختل الأم وتهيم سائلة تُناجى مَن وأدها الموت ومن اختطفها الأنتقام .

 كذلك الإرتباك الأنفعالى فى إيقاع الموسيقى المتأرجحة بين الرغبة فى الأنتقام والسقوط سهواً أو قسراً فى عشق الجانى... ودقات ذلك الناقوس الشاكى الذى لم يفارق تيمة الألحان وكأنه يُذَكر (آمنة) طيلة الأحداث بثأرها ...وكانت نداءات الكروان دائما ما تعصف بلحظات ضعفها وتذكرها بجثمان اختها الراقد تحت الرمال وينتظر البشارة ، وكيف ربط (رايدر) بين إطلالة ذلك  (الخال) الذى يشبه أصنام قريش، وعويل الموسيقى الذى ينساب اقتراناً بمشاهد حضوره لتتوائم مع ذلك الخنجر العالق بجيبه والمتأهب لسفك المزيد من الدماء دون رحمة ؟

 وقد بلغت ذروة الإنفعال الموسيقى فى مشهد النهاية الذى يشبه ركضاً طويلاً يليه سقوطاً مفاجئاً وصولاً لنقطة النهاية .... فإذا بالجانى العاشق يُقتَل برصاص" الخال" المارق إفتداءً لمن أرادت قتله ولكن قتلها الهوى سراً ...وهنا يتأهب "رايدر" ليسدد بنغماته ذلك الدين الثقيل الذى لم يكن هناك سبيل لسداده سوى موت ( الجانى أو الضحية )، وقد تبادلا الأدوار باللحظة الأخيرة إقراراً لمصالحة شعورية ، وجاءت الموسيقى سريعة ومتوترة تحمل الكثير من الترقب.. الكثير من خيبة الأمل لتنتهى بمزيد من الألم المختلط بطلقات النيران وهمسات الإعتذار الأخير واقتناص كلمة صفح لطى المأساة، ليبقى الكروان وحيداً يتصدر بمفرده المشهد الموسيقى الأخير معلناً أن دعائه هو ما أراده "رايدر " نهايةً للصراع الدرامى ، واذا ما تأملنا فيلم "دعاء الكروان " دون موسيقى " رايدر" أو بأخرى لشعُرنا بانتزاع ركن لا يجوز المساس به وإلا اختلت كافة الأنفعالات .

وإذا ما انتقلت معكم الى رائعة العندليب عبد الحليم حافظ ...(جبار) ، لتوقفت كثيراً عند توزيعها الموسيقى العبقرى الذى قدمه (رايدر) بمنتهى الجرأة والثقة ، فأخذ يستبق شدو (حليم) بجولة من الإحماء الحسى قبيل أن نغدو فى خشوع " الإنصات".

فجاءت ضربات الدرامز قوية وحادة لتتصدر المشهد الموسيقى الأول فى الأغنية، مُعلِنة عن عصيان ومكابرة العاشق المطعون ... ثم عادت الموسيقى تحنو وتتهدج متواترة شارحة استرسال المُحِب فى سرد عذاباته حينما تأوه العندليب مغرداً ..." وماكنتش أعرف قبل إنهاردة إن العيون دى تعرف تخون بالشكل ده ......" ، وإذا بها كافة الآلام تستفيق مع صيحة العندليب....(جباااار) والتى تزامنت مع نزيف الأنغام ، وظلت ملحمة الغدر توثق ترنيماتها فى رائعة العندليب بتوزيع موسيقى محترف لا يمكن إنكار تفرده وقدرته على ترجمة مناطق انفعالية دقيقة داخل معانى الأغنية شارحة ذلك الترنح بين الثورة على الغدر والإنخراط فى الذكرى .

والواقع أنه مهما بلغ الإجتهاد فى تحليل موسيقى (أندريا رايدر) ستظل هناك مساحات عميقة لا يمكن ادراكها فى جمله الموسيقية المميزة التى تشبه " بصمة الصوت " التى تظل ملكاً لصاحبها فقط ... ويكفى عند مرور موسيقاه بأذنيك أن تستقر بوجدانك وتأمر احساسك ناطقاً... " تلك المقطوعة للرائع اندريا رايدر " ... رحمة الله على هؤلاء المبدعين الذين انخرطوا فى عشق " الجميلة... مصر " فأهدوها أجمل ما بداخلهم وأسمى ما امتلكوا من مواهب !

##

##

##

 

مقالات اخرى للكاتب

وزير الخارجية يهنئ