حين احتواني فراشي؛ حاولتُ حتى يئس الليل من منامي، دون أن يحس بي وبقلقي الذي يمور بصدري؛ نهضت أرتب أشياءه، أُشرف على صغيرها وكبيرها توقعا لما يحتاج في سَفرته دونما كلمة وبغير أن أرنو إليه، بعدها وسّدت رأسي بين يدي أتصبب دمعا. تضاربت مشاعري بين فرحٍ بيومٍ عشقت انتظاره وحزنٍ وغربة فراقنا لأول مرة، راودتني نفسي أثنيه عن قراره أستبقيه جواري؛ ولكن فجأة داهمني طوفان ذكريات مبعثرة تلح عليّ أرتبها علّها تلملم شَتات نفسي.
فمنذ سنوات عدة كنت طالبة مُجدة، حصدتُ المركز الثاني على المحافظة في الثانوية العامة، وبدأتُ في ترسيم خطوط حلمي لأصبح صحفية، وصَدَق مكتب التنسيق وعده، وزفّ إليّ خبر قبولي بكلية الإعلام جامعة القاهرة، رغم توقعي إلا أني فرحت أيما فرح، أتاني صحفيو الجمهورية والمساء يسألونّي؛ أشرت إليهم قائلة " أن أصير مثلكم " وأنا عَجلةٌ من أمري بدأت في ترتيب شئون سفري لتقديم أوراقي، بصرت عينيّ أبي الدامعتين وقرأت توسلا حنونا يراجعني لأختار كلية أخرى في مدينتي، كيلا ابتعد عنه وهو الأب المكلوم توا في ابنه الشاب الذي ما إن غرق في الأسكندرية حتى اشتعل رأسه شيبا من الحزن؛ صرت بعده أنا أكبرالأبناء، ولأني كنت الأقرب لقلب والدي عزفت لحنا أجيده تماما؛ أستدر عطفه وحنانه فحايلته ودللته حتى أقنعته، ضعف الأب المحزون الحنون، ووافق واثقا بقدرتي على تحمل مسئوليتي في غربتي وحدي.
القاهرة كانت رحلات مدرسية مبهجة أو زيارات للأقارب، أما الأن وفي طريقي للإقامة فيها، فقد قرأتها بطريقة تختلف عمن يعيشها ويألفها ولم تعد تدهشه، وجدتها تعج بالنقائض؛ فالعاصمة الطاعنة الشابة قُبحها ينافس حُسنها، مؤرقة بضوضائها ألقة مشرقة بأضوائها، الفوضى قانونها وزحامها سر جاذبيتها، هواؤها خليط دخان وعرق وأتربة لكنه عبقٌ بتاريخها وسحر أنفاس الرائق نيلها، يتقاطر الوافدون إليها من كل الأقاليم فيألفونها؛ يمنون أنفسهم بطيب عيشها رغم قسوته، منفرة مبهرة معا، تأسرك فلا تستطيع منها فكاكا وإن تمنيت في قرارة نفسك.. لم أدر إلا والقلم بيدي يكتب مشاهداتي في مقالين أرسلتهما للأستاذ صلاح منتصر الكاتب الصحفي بجريدة الأهرام في عموده الشهير "مجرد رأي" فنشرهما في أسبوعين تاليين، وكنت قد كتبت "طالبة على وشك الالتحاق بكلية الإعلام".
في يومي الجامعي الأول لم أكن أعرف أحداً من الطلاب الجدد، ساءلتني نفسي عمن يشاطر الغريبة حنينها لأهلها ومدينتها الهادئة الجميلة، وقبل الغرق في بحر التفكير دخل عميد الكلية ومعه جمع حافل من الأساتذة والمعيدين من مختلف أقسامها ( صحافة إذاعة علاقات عامة ) يرحبون " بكريمة تورتة الثانوية العامة " كما أطلقوا علينا باعتبارنا طلاب إحدى كليات القمة، وفي ذهول سمعت الدكتور خليل صابات - رئيس قسم الصحافة وقتئذ – يناديني باسمي باحثا عني! أحسست بدهشة تهز قلبي، أعضائي ترجف بقوة، ساقاي تفقد القدرة على التمدد، تساندت على مقعدي الخشبي واقفة ملبية " نعم أنا هنا " لكن صوتي هرب بعيدا، رفعت يدا ترعد تستفسر عما اقترفته من جرم هكذا أول يوم جعل مئات العيون تجوب المدرج رقم 1 ثم تحدق في.
ما أروعها من مفاجأة؛ أستاذ الصحافة النابه يخرج من جيبه مقاليّ اللذين نشرتهما، وبروعته احتفظ بهما منتظرا يومي هذا، ليرى تلك الحورية مسديا نصيحة مغلفة بمديح لم أسمع أعذب منه في حياتي قائلا " المواهب الصحفية قد تظهر في عمر مبكر وحين تثقلها الدراسة تبدع أكثر" حياني مبتسما بود، وإحساس ناعم مُلتَذ يكسوني، ضجت القاعة بالتصفيق، فكانت أجمل تحايا العمر أتلقاها في يوم كان مشهودا، وبدأت رحلتي الجميلة طواعية في بلاط صاحبة الجلالة الفاتنة المتعبة.
ماما؛ هل فرغت؟ أُفقت فجأة على صوت أحمد - أكبر أبنائي - مذهولا حين رآني ضاحكة باكية، نظرت إليه تتقاذفني مطرقة الذكريات وسندان الوقت الذي يفر سريعا، ابتسمت له، بحنوٍ ربّت على كتفه، عانقته، عجبت كيف أحرم ابني من فرحة أول يوم جامعي والذي أعتبره بداية سنة أولى حب؛ حين يحب نفسه وأحلامه وتطلعاته وتحقيق مايعشقه؟! ولِمَ البكاء ولطالما حرضته أنا على السفر والاعتماد على ذاته؟! دعوت له، حملت أغراضه بنفسي حتى باب السيارة .. وفي غفلة منه ودون أن يلمحني أودعت قلبي في حقائبه يرتحل معه حتى يؤوبا سويا.
##