29 - 03 - 2024

مـن هـنا نـبدأ

مـن هـنا نـبدأ

كلنا يتحدث عن الفساد ، وحين نفعل ذلك ننأي بأنفسنا عن هذه التهمة ، باعتبار أن الكل فاسد بدرجة أو بأخري ، إلا نحن . وأنه لا سبيل أمام المجتمع للتقدم سوي بمكافحة الفساد ، ومطاردة رموزه ، والقضاء عليهم  . والفساد هو لفظ يترك في النفس انطباعاً دالاً علي كافة النواحي السلبية في الحياة  ، لأنه لا يعني سوي البطلان ، وانتهاك  معني النزاهة والصلاح . فالفساد السياسي لا يعني سوي استخدام النخبة الحاكمة ممثلة في الحكومة ورجالاتها السلطة العامة المخولة لهم لأغراض غير مشروعة ، كالرشوة ، والإبتزاز ، والمحسوبية ، والإختلاس ، وغيرها من صور الفساد الأخري ، علي خلاف أحكام القانون . وأخطر صور الفساد السياسي هو تقنينه ، وإضفاء الشرعية عليه . كما أن هناك ما يسمي بالفساد المالي ، وهو الفساد المتعلق بالأموال العامة التي يملكها المجتمع ، وليس فرداً بعينه . ويكون الفساد فيها بمخالفة الأحكام والقواعد المتعلقة بكيفية التصرف فيها ، وتنظيم العمل بها بما يخدم صالح المجتمع المسمي بالصالح العام . وهناك ما يطلق عليه الفساد الإداري ، ويقصد به الإنحرافات التي تصيب العمل الإداري والوظيفي أو التنظيمي الحكومي ، والمخالفات التي تقع من الموظف العام ـ الموظف الحكومي ـ أثناء قيامه بآداء واجبات وظيفته الرسمية ، وتتحدد هذه الإنحرافات والمخالفات علي ضوء منظومة التشريعات والقوانين واللوائح والضوابط  السائدة في المجتمع . والفساد بصوره الثلاث : السياسي ، والمالي ، والإداري كان قد وصل في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك إلي حد يمكن معه القول بأن الرئيس كان يدير منظومة الفساد في البلاد ، ولا يدير دولة . ولا يمكن لأي عاقل سواء كان مؤيداً لمبارك أو معارضاً له أن ينكر هذه الحقيقة ، لأن رموز الحزب الوطني المنحل قد أقروا بتلك الحقيقة وهم في قمة السلطة . ولقد استشري الفساد في نهاية هذا العصر استشراءًا سرطانياً يصعب معه التماثل للشفاء دون جرعات العلاج المقررة ، ودون المرور بنوبات الألم المبرح التي تنتاب المصاب حال علاجه . ويذهب معارضي مبارك إلي القول بأن نقطة الإنطلاق الأولي للفساد تبدأ من تحت كرسي الرئاسة ، ومن بين يدي الرئيس باعتباره قمة السلطة العامة التي تُستغل لأغراض غير مشروعة  ، وذلك من جانب النخبة السياسية الحاكمة ، باعتبارهم رؤوس المجتمع في السياسة والمال والنفوذ والأنظمة والقوانين والتشريعات واللوائح والضوابط . وإذا فسد الرأس فسد الجسد كله ، فأول ما يفسد من السمكة رأسها ، فإن فسدت فسدت كلها . ووفقاً لهذه الرؤية فإن أولي خطوات الإصلاح لابد أن تتم بالقضاء علي رؤوس الفساد في السياسة والمال والإدارة الذين تربوا وترعرعوا في دولة مبارك / الفاسدة . وأولي خطوات القضاء عليهم إقصائهم عن أماكنهم ، وعزلهم ، ومحاصرتهم حتي يتطهروا مما لحق بهم من فساد في الذمم وخراب في النفوس وانحطاط في منظومة القيم الحاكمة لهم . وما ينطبق علي دولة مبارك ينطبق علي دولة الإخوان التي ركبت الحكم بذات أدوات وآليات وقيم رجالات الحزب الوطني ، ولكن فرع المعاملات الإسلامية . إدارة دولة الفساد بذات المنظومة ، دون تغيير سوي في الإسم . أما أنصار الرئيس الأسبق مبارك فإنهم يرون أن نقطة الإنطلاق الحقيقية للفساد تبدأ من الصغار ، ومبارك لم يكن فاسداً . ولولا فساد الصغار لما كان لفساد الكبار وجوداً ، والفاسد الكبير يلزمه فاسد صغير بالضرورة ، لزوم الوجود والعدم  ، يعاونه ، ويزين له الفساد ، ويسهل له سبله ، وييسر له أسبابه ، ويُخدِّم عليه ، وما الفاسد الكبير إلا فاسداً صغيراً قد كَبُر ، فإذا لم يكن متصوراً أن يولد الإنسان فاسداً بطبعه ، فإنه ليس من المتصور كذلك أن يفسد الإنسان بعد أن يبلغ من العمر أرزله ، خاصة مع توفر ذات الظروف السلطوية التي تهيء الفساد وتتيحه . ومن هنا ووفقاً لهذه الرؤية فإن نقطة البداية الصحيحة للإصلاح والقضاء علي الفساد تبدأ من الصغر ، من البيت ، والمدرسة ، ومقتبل الحياة الوظيفية ، ومنظومة القيم والتشريعات والقوانين السائدة . أما الإكتفاء بعزل كبار الفاسدين ومحاصرتهم وإقصائهم عن الحياة فهو معالجة للقشور دون اللب . فجذور الفساد لا تزال ضاربة في أطناب الأرض ، حية ، نامية ، منتشرة ، مستشرية تحت السطح ، وسرعان ما سيكبر صغار الفاسدين ، ويصبحون كباراً . والواقع أنه يصعب تجاهل وجهتي النظر ، كما يصعب تبني إحداهما دون الأخري ، لما لكلتاهما من وجاهة . دعنا من الجدل الدائر حول من أفسد من ، أو أفسد مِن مَن  ، لأن السرطان يبدأ بفساد خلية واحدة ، سرعان ما تنقسم ، متكاثرة ، علي نحو غير ملموس أو محسوس أو طبيعي ، ويعد من باب العبث البحث عن هذه الخلية . فالأهم من البحث عنها البحث عن جرعات العلاج ، وتناولها علي عجل ، وتحمل آلامها ، ومرارتها ، والصبر عليها حتي تؤتي أكلها ، وتستأصل الداء من جذوره ، علي نحو لا يسمح بانتكاسة في العلاج أو عودة المرض . وأنا أري أن أولي خطوات الإصلاح ومعالجة الفساد هي الإصلاح التشريعي في كافة المجالات علي نحو لا يفتح باباً للإستثناء الفاسد ، ولا يترك باباً موارباً لسوء استغلال السلطة المخولة لأي أحد . والإلتزام الصارم بالعقوبات المقررة في هذه التشريعات تطبيقاً وتنفيذاً ، وأن تكون الحصانات المقررة لبعض الفئات منحصرة داخل دائرة العمل ، ولا تمتد إلي خارجه . وأن يرتبط التصعيد الوظيفي وجوداً وعدماً بدورات تأهيل للترقي تبتعد عن الشكلية والمظهرية ، وأن تكون اختبارات الترقي محك فعلي للقدرات التي يتمتع بها الفرد . من هنا نبد.

مقالات اخرى للكاتب

مـن هـنا نـبدأ





اعلان