في تحوّلٍ يُعيد تعريف معادلات القوة في أحد أكثر مناطق العالم حساسية واستراتيجية، هزّت خطوة إسرائيلية جريئة أركان الدبلوماسية الدولية، فمع إعلان تل أبيب الرسمي في 26 ديسمبر 2025 الاعتراف بجمهورية أرض الصومال (صوماليلاند) كدولة مستقلة، لم تكن إسرائيل تفتح باباً دبلوماسياً فحسب، بل كانت تدفع بمفتاح استراتيجي عميق نحو قلب التكوين الجيوبوليتيكي للقرن الإفريقي والبحر الأحمر.
وجاء الإعلان الذي وقّعه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير خارجيته جدعون ساعر، إلى جانب رئيس أرض الصومال موسى بيدي عبدي، في حفلٍ مغلفٍ بخطاب التعاون والسلام "في روح اتفاقيات إبراهام"، لكن النبرة التفاؤلية لم تُخفِ الصدمة التي أحدثتها هذه الخطوة في العواصم العربية والإفريقية، فالقاهرة التي التقطت على الفور أصداء القرار البعيد، وصفت الحدث بأنه "سابقة خطيرة تهدد السلم والأمن الدوليين"، في إشارة واضحة إلى أن الاعتراف يتجاوز كونه مجرد تغيير في المواقف الدبلوماسية، ليصير قضية أمن قومي مصري وجودي.
وهذا القرار التاريخي - الذي يجعل إسرائيل أول دولة عضو في الأمم المتحدة تعترف بسيادة الإقليم المنفصل عن الصومال منذ 1991 - لم يولد في فراغ، إنه تتويج لحسابات استراتيجية معقدة، ورد فعل على تحولات عميقة في البيئة الأمنية الإقليمية، خاصة بعد حرب غزة 2023 وتصاعد تهديدات الملاحة في البحر الأحمر، لكن تبقى التساؤلات الأكثر إلحاحاً: لماذا الآن؟ وما الثمن الذي ستدفعه مصر، حارسة مدخل البحر الأحمر وشريان قناة السويس؟ وكيف يمكن لهذا الاعتراف أن يتحول من ورقة دبلوماسية إلى منصة عسكرية متقدمة تُعيد رسم توازنات الرعب في المنطقة؟
وتتجاوز تداعيات هذا الزلزال الدبلوماسي حدود القرن الإفريقي، لتمتد إلى صميم الأمن القومي المصري، حيث تُهدد باختراق "الخط الأحمر" التاريخي لمصر في البحر الأحمر، وتُعيد إحياء مخاوف التطويق الاستراتيجي، وتمنح جهات معادية نقاط ارتكاز يمكن أن تتحول بين عشية وضحاها إلى قواعد لمراقبة وتعطيل حركة الملاحة الحيوية، وهذا التحليل يستكشف طبقات هذه الأزمة المتعددة، ويكشف كيف أن قراراً يُتخذ في مكتب في تل أبيب قد يُعيد تشكيل مصائر أمم على بعد آلاف الكيلومترات، ولكن تداعياته الجيوستراتيجية والعسكرية على مصر تبقى الأكثر عمقاً وخطورة.
ولم تكن الخطوة الإسرائيلية الجريئة بالاعتراف بجمهورية أرض الصومال مجرد حدث دبلوماسي عابر، بل هي ضربة استراتيجية محسوبة بعناية في رقعة الشطرنج الجيوبوليتيكية لمنطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر، ويُشكِّك المحللون في أن تكون الدوافع بريئة أو مقصورة على إقامة علاقات دولية جديدة، بل يرون فيها محاولة لتحقيق مجموعة أهداف متشابكة ومتعمقة، تتراوح بين تحقيق أمني عاجل وطموحات إقليمية بعيدة المدى، فما وراء الستار الدبلوماسي يكمن تشريح الدوافع الإسرائيلية العميقة للاعتراف بأرض الصومال.
ويُعتبر الدافع الأمني المباشر هو المحرك الأبرز لهذه الخطوة، حيث قلب الموازين الأمنية بالرد على تهديدات البحر الأحمر والبحث عن عمق استراتيجي، ففي أعقاب حرب غزة 2023 والهجمات المتصاعدة التي تشنها جماعة الحوثي (الموالية لإيران) على سفن في البحر الأحمر، وجدت إسرائيل نفسها في حاجة ملحة لإعادة تقييم إستراتيجيتها الدفاعية، ولطالما شكل مضيق باب المندب، بوابة البحر الأحمر الحيوية، شرياناً حيوياً للتجارة العالمية والأمن الإسرائيلي، وهو ما جعل السيطرة عليه أو التأثير على محيطه هدفاً إستراتيجياً، ويمنح الاعتراف إسرائيل موطئ قدم مباشر على الضفة الجنوبية لهذا المضيق الحسّاس، عبر الإقليم الذي يطل على خليج عدن، وهذا الموقع يتيح لإسرائيل إمكانية مراقبة تحركات الحوثيين في اليمن عن قرب، وربما إنشاء منشآت استخباراتية أو لوجستية تكون "بديلاً أو مكملاً لعملياتها في البحر الأحمر"، بل إن بعض المحللين يتحدثون صراحةعن سعي إسرائيل لإقامة قاعدة عسكرية قبالة اليمن لمواجهة تهديدات الحوثيين مباشرةً، وبهذا تكتمل الصورة: وجود شمالي في إيلات وآخر جنوبي محتمل في أرض الصومال، مما يخلق ما يشبه "كماشة" أمنية تمكن إسرائيل من مراقبة الممر المائي برمته والتحكم في مداخله.
ويتجاوز الدافع الإسرائيلي الرد المباشر على الحوثيين، ليدخل في صراع أوسع على النفوذ الإقليمي، بإعادة رسم خرائط النفوذ بتحالفات مضادة لإضعاف الخصوم، ويُنظر إلى هذه الخطوة كجزء من إستراتيجية أوسع لاحتواء النفوذ الإيراني وحلفائه، كما أنها تُقرأ كرد فعل على الصعود الملحوظ للنفوذ التركي في القرن الإفريقي، وخاصة في الصومال المجاورة، ومن خلال التحالف مع أرض الصومال، تقوم إسرائيل بتقوية كيان منافس للحكومة الصومالية المدعومة من تركيا، مما يخلق توازناً جديداً في المنطقة يخدم المصالح الإسرائيلية ويحد من توسع القوى المنافسة، كما أن الخطوة تفتح الباب أمام تعاون أوثق مع إثيوبيا، الحليف الإقليمي المهم لإسرائيل، والتي تسعى بدورها للحصول على منفذ بحري عبر ميناء بربرة في أرض الصومال، وهذا التعاون الثلاثي المحتمل (إسرائيل - أرض الصومال - إثيوبيا) قد يُعيد تشكيل التحالفات في القرن الإفريقي، وهو ما يقلق دولاً مثل مصر التي تسعى للحفاظ على استقرار المنطقة وحماية أمنها القومي القائم على أمن البحر الأحمر.
وهناك بعدان آخران، كدوافع أكثر إثارة للجدل، يُطرحان في قراءة الدوافع الإسرائيلية؛ الفرضية الأولى تهجير الفلسطينيين، حيث ترددت تكهنات قوية، رغم عدم تأكيدها رسمياً، عن أن يكون أحد أهداف الاعتراف هو إعداد الأرضية لعمليات تهجير فلسطينيين من غزة إلى أرض الصومال في المستقبل، وقد أشارت تقارير سابقة إلى أن الإقليم كان من بين الأماكن المطروحة في مثل هذه المخططات المزعومة، وهذا ما دفع 21 دولة عربية وإسلامية، في بيان مشترك، إلى رفض الاعتراف و"الربط بين هذا الإجراء وأي مخططات لتهجير أبناء الشعب الفلسطيني خارج أرضه"، أما الفرضية الثانية فإسرائيل سارعت إلى تقديم الاعتراف في إطار "اتفاقيات أبراهام"، وهي سلسلة اتفاقات التطبيع التي أبرمتها مع بعض الدول العربية، والهدف من ذلك ذو شقين: أولاً، منح الخطوة غطاءً من "الدبلوماسية السلمية"، وثانياً، محاولة جذب المزيد من الدول الأفريقية أو الإسلامية الضعيفة للانضمام إلى هذه الدائرة من العلاقات، مما يوسع المجال الجيوبوليتيكي للاتفاقيات ويعزز الشرعية الإقليمية والدولية لإسرائيل ويكسر عزلتها الدبلوماسية التاريخية في أفريقيا.
فيبدو أن الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال هو محاولة لتحقيق أربعة أهداف في خطوة واحدة: خلق عمق أمني استراتيجي في مواجهة إيران وحلفائها، وفرض واقع جيوبوليتيكي جديد يضعف النفوذ التركي ويعزز التحالفات الموالية، وفتح باب تخميني لمشاريع ديموغرافية مستقبلية مثيرة للجدل، وتوسيع النفوذ الدبلوماسي تحت مظلة "اتفاقيات إبراهيم"، وهذه الخطوة بهذا القدر من التعقيد، تؤكد أن تداعياتها ستتجاوز حدود القرن الإفريقي لتشكل تحدياً جديداً لاستقرار البحر الأحمر ومصالح الدول المطلة عليه.
وإذا كان الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال يمثل زلزالاً في القرن الإفريقي، فإن الهزة الارتدادية الأقوى والأكثر خطورة تتجه مباشرة نحو القاهرة، فما قد يبدو في الظاهر تحركاً دبلوماسياً بعيداً، يتحول عند التدقيق إلى مجموعة مترابطة من التحديات الجيوستراتيجية الوجودية التي تلامس صميم الأمن القومي المصري، إنها ليست مجرد إضافة تحالف جديد على الخريطة، بل هي عملية لإعادة هندسة البيئة الإستراتيجية المحيطة بمصر، وتهدد باختراق خطوطها الحمراء التاريخية، وتعطيل شريان حياتها الاقتصادي، وفرض واقع جديد من التطويق والمنافسة في الفضاء الحيوي الذي تعتبره مصر حديقتها الخلفية وحاجز أمانها الأول، وهذه الخطوة تفتح ثلاث جبهات أزمة رئيسية تضع مصر أمام امتحان مصيري لسيادتها ونفوذها.
فاخترقت إسرائيل بسكين الاعتراف الدبلوماسي، ما ظل لقرون أحد أقدس المقدسات الأمنية المصرية وأكثرها حساسية: مبدأ السيادة الحصرية لدول البحر الأحمر على أمن مياهه، وهذا "الخط الأحمر" المصري - الذي دافع عنه الرؤساء والسفراء والقادة العسكريون على مدار عقود في كل المحافل الدولية - لم يعد مجرد تحذير دبلوماسي، بل تحول إلى حاجز يتم اختراقه في وضح النهار.
فإن الاعتراف بصوماليلاند ليس حدثاً ورقيّاً بريئاً، بل هو مفتاح استراتيجي ذهبي يمنح تل أبيب شرعيةً - ولو مثيرة للجدل - لتحويل ساحلها الطويل إلى حقيقة عسكرية، فالأمر لم يعد تكهنات؛ فميناء بربرة الاستراتيجي - البوابة الجنوبية لمضيق باب المندب - تحول بالفعل إلى قاعدة عسكرية إماراتية نشطة، مما يخلق سابقة وخطة جاهزة يمكن لإسرائيل أن تحذو حذوها بسرعة قياسية، سواء من خلال إنشاء قاعدة خاصة بها أو عبر ترتيبات استخباراتية ولوجستية مشتركة مع حليفتها الإماراتية تحت غطاء الاعتراف الرسمي.
وهذا التحول يغير قواعد اللعبة جذرياً؛ فوجودٌ عسكريٌ إسرائيلي دائم على الضفة الجنوبية للمضيق، يقابله وجودها القوي في إيلات شمالاً، يعني أن البحر الأحمر برمته - ذاك الشريان الحيوي الذي تعتبره مصر بحيرة أمن قومي - سيدخل لأول مرة في تاريخه الحديث ضمن نطاق السيطرة العملية المباشرة لجيش غير عربي، إنه انتهاك سافر للسيادة الضمنية لمصر على أمن هذه الممرات المائية، وتحويل لثوابت الاستقرار الإقليمي إلى ورقة ضغط إستراتيجية في يد خصم تاريخي، فالحارس التاريخي للبوابة الشمالية للمضيق يجد نفسه فجأة في مواجهة من يحتل البوابة الجنوبية.
وتتحول اللعبة الجيوبوليتيكية في البحر الأحمر من منافسة على النفوذ إلى وضعية حصار استراتيجي مكتمل الأركان، فبعد الاعتراف الإسرائيلي، لم تعد مصر تواجه تحدياً في جبهة واحدة، بل وجدت نفسها مُحاصَرة بين فكَّي كماشة استراتيجية غير مسبوقة في بحرها الحيوي، الفك الشمالي مثبَّت منذ عقود في إيلات، والفك الجنوبي الجديد يُمدُّ الآن نحو أرض الصومال، ويبدو المشهد كما لو أن خريطة المنطقة تُعيد رسم نفسها بقوة الواقع الجديد: بحرٌ أحمر مُحاصَر بين قوتين، إحداهما تُمسك بمفتاحه الجنوبي بذراع صلبة.
وهذا التواجد المزدوج لا يعني مجرد مراقبة عابرة؛ إنه يحوِّل البحر الأحمر - الذي طالما نظرت إليه القاهرة باعتباره "حديقتها الخلفية" والشريان المغذي لقناة السويس - إلى ممر مائي تحت المراقبة المباشرة والدائمة لخصم استراتيجي، وتصبح قدرة إسرائيل على تعطيل حركة الملاحة الدولية باتجاه القناة، سواء عبر عمليات إلكترونية، أو نشر معلومات مضللة تؤثر على أقساط التأمين، أو حتى عمليات عسكرية محدودة، أداة ضغط هائلة، ولقد تحولت السيطرة الجغرافية إلى ورقة ابتزاز استراتيجي جاهزة للاستخدام في أي تصعيد محتمل.
والخطر هنا ليس عسكرياً بحتاً، بل هو اقتصادي وجودي، فبحسب تحذيرات خبراء الاقتصاد والملاحة الدولية، أي اضطراب مُفتعل في مضيق باب المندب - ولو كان طفيفاً - يؤدي فوراً إلى تسونامي مالي يبدأ بارتفاع جنوني في أقساط تأمين السفن، ويتحول بسرعة إلى تحويل مسارات الشحن الضخمة بعيداً عن قناة السويس، حول رأس الرجاء الصالح، والخسائر هنا تُحسَب بمليارات الدولارات يومياً، ليس للاقتصاد المصري وحده، بل للعالم أجمع، ولكن في قلب هذه العاصفة الاقتصادية، تقف مصر كأكثر المتضررين، حيث يتحول شريان حياتها الاقتصادية إلى نقطة ضعفها الأكثر عرضة للاستهداف، والاعتراف الإسرائيلي، بهذا المعنى لا يهدد الأمن العسكري فحسب، بل يغرس سكيناً اقتصادية موجهة مباشرة إلى صميم الاستقرار الوطني المصري.
ولا يمكن قراءة الاعتراف الإسرائيلي المشروط بأرض الصومال بمعزل عن (المحور الخفي) ذلك التحالف الأوسع، فهذه الخطوة ليست سوى القطعة الظاهرة من جبل جليد استراتيجي يمثله تحالف رباعي خفي، يضم إسرائيل وإثيوبيا والولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة، ويُنظر إلى هذا المحور ليس كرد فعل عابر، بل كتجسيد لطموحات ممنهجة تسعى وراء "تفتيت دول المنطقة"، في نموذج يُشبه ما حدث في اليمن والسودان.
وفي قلب هذه المعادلة، تقف إثيوبيا كأكبر المستفيدين غير المباشرين، فالدولة الحبيسة، التي تسعى منذ سنوات للحصول على منفذ بحري وقاعدة عسكرية على البحر الأحمر، وجدت في الاعتراف الإسرائيلي مدخلاً ذهبياً لتحقيق حلمها الاستراتيجي، وكانت القاهرة قد تصدت سابقاً وبقوة لمحاولات إثيوبية علنية لإنشاء ميناء أو قاعدة عسكرية، إلا أن التحالف الجديد يغير قواعد اللعبة، فمن خلال حليفتها الإسرائيلية، قد تحصل أديس أبابا على تسهيلات أو وجود ضمني في موانئ أرض الصومال، مثل بربرة، مما يمنحها منفذاً حيوياً ويحولها إلى لاعب مباشر على شواطئ البحر الأحمر. وهذا التحالف الرباعي لا يهدد المصالح المصرية فحسب، بل يعيد إحياء تهديدات وجودية على جبهتين، فبالإضافة إلى التحدي الإسرائيلي المباشر في البحر الأحمر، تبرز من جديد الأطماع الإثيوبية المائية والأمنية، حيث تخلق أديس أبابا جبهة ضغط ثانية على مصر، لا تقل خطورة عن جبهة باب المندب، وبذلك يتحول الاعتراف من مناورة دبلوماسية إلى أداة لإحياء تحالف إقليمي معادٍ، يعمل على تطويق مصر واستنزافها في أكثر من ساحة في وقت واحد.
ومن تحت عباءة الشرعية الدبلوماسية التي يمنحها الاعتراف، تبدأ ملامح استراتيجية عسكرية جديدة بالظهور، تحوِّل المكاسب السياسية الإسرائيلية إلى أدوات ضغط وأذرع تنفيذ فاعلة، تهدد الأمن القومي المصري بطريقتين: واحدة دقيقة وسريعة كالسكين، وأخرى بطيئة وعميقة كالسيف، فما يراه البعض خطوة سياسية، يتحول في الحسابات العسكرية إلى نقلة نوعية وأدوات حرب متعددة الأوجه، تمنح إسرائيل إمكانيات كانت تحلم بها سابقاً، وهذا التحول لا يقتصر على مجرد وجود على الخريطة، بل يخلق واقعاً إستراتيجياً جديداً يجعل البحر الأحمر ساحة محتملة للمواجهة، ويمنح تل أبيب أوراقاً عسكرية متقدمة في أي صراع مستقبلي، مما يحوِّل حلمها الاستراتيجي إلى كابوس أمني دائم لمصر.
فعلى المستوى التكتيكي يمكن تحويل أرض الصومال إلى قاعدة عمليات متقدمة لاستخبارات الإشارة والمراقبة الجوية والبحرية، ترصد تحركات السفن الحربية والتجارية المصرية في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن، ويقترب ساحل أرض الصومال من المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون في اليمن بنحو 300-500 كيلومتر، ويمكن استخدام هذا الساحل كمنصة للضربات الموجهة وشن موجات بطائرات مسيرة أو صواريخ على أهداف حوثية، ولكن في سياق صراع أوسع، قد تُستخدم نفس المنصة لتهديد الأصول المصرية أو حلفائها في المنطقة، ويعتبر تهديد حرية الملاحة في باب المندب، سواء عبر عمليات عسكرية مباشرة أو عبر إشاعة عدم الاستقرار، لتعطيل سلاسل الإمداد، هو سلاح تكتيكي يمكن أن يخنق الاقتصاد المصري المعتمد على قناة السويس في وقت قياسي.
وعلى المستوى الاستراتيجي، فبإعادة رسم هندسة التحالفات: يُمكِّن الاعتراف إسرائيل من بناء تحالف استراتيجي جديد في القرن الإفريقي، يضم أرض الصومال وإثيوبيا والإمارات، مما يعيد موازين القوى الإقليمية ضد محور مصر- تركيا - قطر في المنطقة، كما أن الوجود العسكري الإسرائيلي جنوب البحر الأحمر يضغط على العمق الجيوبوليتيكي المصري في إفريقيا، ويهدد شبكة العلاقات التي بنتها القاهرة مع دول القرن الإفريقي مثل جيبوتي والصومال لمكافحة مثل هذا التواجد، وكذلك تحقيق التطويق الجغرافي من الشمال والجنوب يشكل تهديداً وجودياً للأمن القومي المصري، حيث يصبح البحر الأحمر، الشريان الحيوي لمصر، تحت مرمى النيران الإسرائيلية المباشرة وغير المباشرة.
ولم تنتظر القاهرة طويلاً، فبعد ساعات فقط من الإعلان الإسرائيلي، تحولت غرف العمليات الدبلوماسية المصرية إلى ساحة مواجهة عاجلة، وتقود هجوماً دبلوماسياً مضاداً عبر سلسلة اتصالات هاتفية مكثفة، حاصدةً تأييداً واضحاً من أنقرة ومقديشو وجيبوتي، فشكلت جبهة الرفض في مواجهة تحالف التفتيت وأعلنت الرفض التام والإنذار الموحد: الاعتراف يمثل "سابقة خطيرة" تهدد الاستقرار الإقليمي برمته، وفق البيان المصري الحازم الذي حمل في طياته تحذيراً من عواقب لا تُحمد عقباها.
وهذا التحرك السريع لم يكن رد فعل آنياً فحسب، بل كان استراتيجية لتشكيل جبهة رفض إقليمية صلبة، تجسدت في تحالف رباعي جديد (مصر، تركيا، الصومال، جيبوتي)، ولكن هذه الجبهة تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع تحالف رباعي منافس وقوي (إسرائيل، إثيوبيا، الإمارات، الولايات المتحدة)، ويدفع باتجاه إعادة رسم خرائط المنطقة وفق رؤيته، فالمشهد بذلك يتحول إلى مواجهة جيوبوليتيكية بين معسكرين: الأول يرفض التغيير القسري للحدود ويدافع عن مبدأ وحدة الأراضي، والثاني يرى في الفوضى والتمزيق فرصةً لتعزيز مصالحه ونفوذه، وتجد مصر نفسها في قلب هذه العاصفة، تقود معركة دبلوماسية هي في جوهرها معركة للدفاع عن مفهوم الاستقرار الإقليمي ذاته.
ولم يكن الرفض حكراً على الجوار المباشر، بل تحول إلى ظاهرة دولية عابرة للقارات، فمن أديس أبابا، مقر الاتحاد الإفريقي، انطلقت إدانة واضحة وحازمة، مؤكدة على مبدأ "وحدة الصومال وسيادته" كخط أحمر لا يمكن تجاوزه في النظام الإفريقي، وفي الجانب العربي، خرج كل من مجلس التعاون الخليجي والقمة العربية الإسلامية بإدانات متطابقة، محذرين من أن هذه "السابقة الخطيرة" قد تفتح صندوق باندورا الإقليمي، وتشجع على تمزيق نسيج الدول الهشة.
لكن صورة الرفض الدولي الموحد هذه، اصطدمت بجدار من الانقسام والتردد في واشنطن، فبينما حافظ الموقف الرسمي الأمريكي على حذر دبلوماسي معتاد، خرجت أصوات مؤيدة من داخل أروقة الكونغرس، لعل أبرزها صوت السيناتور الجمهوري تيد كروز، الذي دعا صراحةً إلى الاعتراف الكامل، وهذا "الدعم الجزئي" الأمريكي، وإن كان غير رسمي، أحدث شرخاً في الجبهة الدولية، مما أضعف قوة الرفض وأعطى للخطوة الإسرائيلية هامشاً من الشرعية والغطاء السياسي في الساحة الدولية، محولاً الأزمة من إجماع رافض إلى معركة دبلوماسية مفتوحة بين رؤى متصارعة.
وتقف المنطقة الآن على حافة مفترق طرق تاريخي، حيث يرسم المستقبل القريب مشهدين متعارضين تماماً، كل منهما يحمل عواقب مصيرية على أمن مصر القومي؛ ففي المشهد الأول الأكثر تفاؤلاً، تنجح الآلة الدبلوماسية المصرية والعربية، بدعم من الموقف الأفريقي والإسلامي الرافض، في فرض حجر صحي سياسي على الاعتراف الإسرائيلي، ويصبح هذا القرار حالة شاذة ومنبوذة دولياً، لا تتبعها دول أخرى، مما يحصر تأثيره ويحوله إلى مجرد أزمة ثنائية يمكن احتواؤها، وهذا النصر الدبلوماسي سيمنع تحول الاعتراف إلى ظاهرة معدية تهدد بتفكيك النسيج الهش لدول المنطقة، وستكون النتيجة حماية الوضع الراهن وإبقاء البحر الأحمر ضمن الإطار الإستراتيجي التقليدي، حيث تحافظ مصر على دورها المركزي.
أما المشهد الثاني الكابوسي، فهو أن يصبح الاعتراف الإسرائيلي الحجر الأول في انهيار جيوبوليتيكي شامل، وهنا تتحول الخطوة إلى شرارة تشجع دولاً أخرى لها مصالح وأجندات متقاطعة - مثل الإمارات التي لها وجود عسكري مسبق في بربرة، أو إثيوبيا المتعطشة لمنفذ بحري - على السير في نفس الدرب، وحينها لن نكون أمام قرار دبلوماسي منعزل، بل أمام تسونامي من الاعترافات المتبادلة وإعادة رسم للتحالفات، وهذا التحول القاري سيضع مصر في موقف دفاعي عصيب، مجبرةً على مواجهة تحالفات متعددة الجبهات.
والخطر الأعظم في هذا المشهد هو تحول البحر الأحمر إلى ساحة مفتوحة لسباق تسلح ونفوذ شرس، وستنشط القواعد العسكرية الأجنبية، وتتصاعد عمليات الاستخبارات والمراقبة، وتصبح الممرات المائية أداة للضغط والابتزاز في أي نزاع، ومصر رغماً عنها ستجد نفسها طرفاً رئيسياً في حرب باردة جديدة، مجبرة على إنفاق موارد هائلة واستنزاف طاقتها الدبلوماسية والأمنية في معركة للحفاظ على نفوذها في بحرها الحيوي، والفارق بين المشهدين هو الفارق بين الاحتواء والفوضى، بين الحفاظ على الاستقراروالانزلاق إلى دوامة من الصراع التي لن يكون لمصر فيها إلا خيار المواجهة.
الخاتمة
الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال ليس مجرد توقيع على وثيقة دبلوماسية يمكن تجاهلها أو نسيانها مع تدفق الأخبار، إنه في جوهره زلزال استراتيجي هادئ، تبدأ هزاته الارتدادية في إعادة تشكيل المشهد الجيوبوليتيكي لأحد أكثر مناطق العالم حيويةً وأقلها استقراراً: القرن الإفريقي والبحر الأحمر، وهذه الخطوة المحسوبة بدقة تخرق السطح الهادئ للعلاقات الدولية لتكشف عن صراع عميق على إعادة رسم خرائط النفوذ، حيث تتحول المكاسب السياسية الفورية إلى أدوات للسيطرة طويلة المدى.
وبالنسبة لمصر، الحارس التاريخي لبوابة الشمال ومضمار الملاحة الدولية، فإن هذا الزلزال يحمل تداعيات وجودية، فهو ليس تحدياً واحداً يمكن مواجهته، بل هو تهديد مركب متعدد الرؤوس: فهو اختراقٌ صارخ لأقـدم الخطوط الحمراء الأمنية المصرية في البحر الأحمر، وتحويلٌ لهذا البحر من مجال حيوي إلى ساحة محتملة للتطويق الاستراتيجي بين فكي كماشة شمالية وجنوبية، وهو أيضاً ومن دون أدنى شك، منصة عسكرية واستخباراتية محتملة تمنح خصوماً تاريخيين قدرة غير مسبوقة على مراقبة وتعطيل شريان الحياة الاقتصادية لمصر المتمثل في قناة السويس، والأخطر من ذلك كله أنه قد يكون المسمار الأول في نعش تحالف "رباعي" معادٍ، يعيد إحياء أطماع إقليمية قديمة ويفتح الباب أمام سباق تسلح ونفوذ تدفع مصر ثمنه من أمنها واستقرارها.
ولقد دأبت القاهرة لعقود، وبثمن باهظ، على الحفاظ على جزيرة نسبية من الاستقرار في محيط إقليمي مضطرب تتقاذفه الصراعات، واليوم يبدو أن هذا الاستقرار نفسه أصبح مستهدفاً، فبعد أن كانت مصر لاعباً رئيسياً في لعبة التوازنات الإقليمية، تجد نفسها فجأة في موقف المدافع عن مفهوم النظام الإقليمي ذاته، في وجه هندسة جديدة للتحالفات تسعى ليس فقط لتغيير التحالفات، بل لإعادة تعريف قواعد اللعبة برمتها، والمعركة التي تخوضها مصر اليوم ليست فقط حول الاعتراف بكيان غير معترف به، بل هي معركة مصيرية حول: من يتحكم في مصير البحر الأحمر؟ ومن يملك حق تحديد مستقبل أمن المنطقة؟ الإجابة على هذه الأسئلة ستحدد، إلى حد كبير، شكل الشرق الأوسط وأفريقيا في العقود القادمة.
----------------------------------
بقلم: أحمد حمدي درويش






