متى يتحول حرمان الحرية الدينية إلى أداة نفوذ تهدد المجتمع كله
- كمال زاخر: تحالف رجل الدين ورجل السياسة يحاصر العقل الجمعي ويرحل أزمات الناس إلى «جنة مؤجلة»
في مصر اليوم لم يعد الدين مجرد مسألة شخصية بين الفرد وربه، بل أصبح في كثير من الحالات أداة نفوذ وسيطرة على السياسة، الاقتصاد، التعليم، وحتى الحياة الاجتماعية اليومية.. المؤسسات الدينية وبعض الشخصيات النافذة تستخدم الدين لتبرير سياسات محددة.. ولحشد الدعم الشعبي، ولمنح نفسها شرعية اجتماعية وسياسية إضافية، بعيدا عن مساءلة واضحة.. تحليلات خبراء السياسة تؤكد أن هذا الاستغلال يحدث على مستويات متعددة، من المناهج التعليمية التي تشكل وعي الطلاب وفق رؤية محددة، إلى برامج تنموية تديرها مؤسسات دينية باسم خدمة المجتمع، بينما تحمل أهدافا سياسية أو اقتصادية غير معلنة.
الجانب الاقتصادي لهذه السيطرة لا يقل خطورة، فالمؤسسات الدينية تدير أموالا ضخمة، بعضها شفاف وبعضها غامض الوجهة، ما يتيح استخدامها لتعزيز النفوذ على الأفراد والمجتمع.. دراسة حديثة لمركز بحثي مستقل أشارت إلى أن نحو 15–20% من هذه المؤسسات لديها تمويلات يصعب تتبعها، ما يجعلها أدوات فعالة للضغط الاجتماعي والسيطرة على القرارات اليومية للمجتمع، خصوصا في المناطق الأقل وعيا بحقوقها المدنية... الخبيرة الاقتصادية الاجتماعية مها عبد الرحمن اكدت: التحكم في الموارد المالية يتيح ممارسة نفوذ مباشر على الأفراد والجماعات ويعزز سيطرة المؤسسات على القرارات اليومية للمجتمع..
القوانين المصرية تضمن حرية العقيدة، لكن توجد فجوات تجعل استغلال الدين ممكنا.. الدستور ينص على حرية المعتقد، ويحمي قانون العقوبات قداسة الأديان، إلا أن ضعف الرقابة وغياب آليات حماية فعالة يجعل الأفراد والجماعات عرضة للاستغلال باسم الدين، خصوصا عند استخدام القانون لتقييد التعبير أو ممارسة ضغوط على الأقليات... المحامي الحقوقي أحمد السيد يقول: ضعف الرقابة يجعل الأفراد عرضة للاستغلال باسم الدين.. رغم وجود نصوص واضحة في الدستور.
الاستغلال الديني يولد أيضا ضغطا نفسيا واجتماعيا واضحا، حيث يشعر الأفراد بالخوف والذنب والعزلة، خصوصا بين الأقليات.. أدوات الضغط تشمل التمييز في العمل، الحرمان من فرص التعليم، أو فرض مشاركة في أنشطة دينية محددة.. الدكتورة منى حسن، أستاذة علم الاجتماع، أوضحت: الضغط الديني ليس مجرد ضبط سلوكي، بل وسيلة لفرض سلطة مباشرة على القرارات الفردية والجماعية، ما يعمق الفجوات بين الأغلبية والأقليات.. استمرار هذا الاستغلال يضعف المجتمع المدني ويحد من قدرة الأفراد على ممارسة حقوقهم بحرية، ويجعل الدين وسيلة للسيطرة أكثر من كونه أداة للإيمان والتوجيه الروحي...
تاريخ الظاهرة في مصر يظهر أن استغلال الدين للسلطة ليس جديدا، لكنه ازدادت تعقيدا مع تداخل السياسة والاقتصاد بالمؤسسات الدينية، ليصبح الدين أداة مركبة للتحكم بالمجتمع.. المحامي الحقوقي أحمد السيد يؤكد:“الاستغلال يحدث غالبا عبر تهديد الوظائف، فرض برامج دينية، أو استخدام قوانين ازدراء الأديان لتقييد التعبير.. ما يجعل الأفراد عاجزين عن حماية أنفسهم..

ويعلق المفكر القبطي ومؤسس التيار العلماني داخل الكنيسة، كمال زاخر، قائلا إن الاشكالية لا تتعلق برجال الدين بوصفهم أفرادا، بقدر ما ترتبط بتحالف واضح بين السلطة الدينية والسلطة المدنية، خاصة في دول العالم الثالث، حيث تتقاطع المصالح بين الطرفين بشكل مباشر.. وأوضح أن هذا التحالف ليس حكرا على العالم الثالث فقط، لكنه يكون أكثر وضوحا وعمقا في تأثيره داخل هذه المجتمعات، بسبب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وتراجع الوعي والثقافة...
وأشار زاخر إلى أن استخدام الدين في هذه السياقات يعد الوسيلة الأسهل للسيطرة على الشارع، لأن الدين بطبيعته يحمل وعودا أخروية، ترحل من خلالها أزمات الحاضر إلى ما بعد الحياة، فيطلب من المواطن الصبر على الفقر والظلم مقابل الجنة أو الفردوس.. وأضاف أن رجال السياسة ليسوا بعيدين عن هذا التوظيف، بل يدعمونه باعتباره أداة فعالة لإحكام السيطرة، في حين يرى بعض رجال الدين أن هذا التحالف يخدم انتشار رسالتهم، وإن اختلفت الدوافع، إلا أن الاتجاه واحد، وهو تقابل المصالح بين المؤسستين الدينية والسياسية...
وفي رده على سؤال حول التهديد أو التقييد باسم الدين، أوضح زاخر أنه لا يمكن دائما الإشارة إلى وقائع فردية بعينها، لكن يمكن الحديث عن نمط عام ممتد تاريخيا في المنطقة، يقوم على تبني خطاب ديني يكفر أو يجرم الخروج على الحاكم، وهو خطاب تكرر عبر التاريخ المصري والعربي، وتحول إلى جزء من الوعي الجمعي. ولفت إلى أن هذا التحالف بين رجل الدين ورجل السياسة يشكل كماشة تضغط على العقل الجمعي، وتحجب عنه حقه في الاختلاف، وهو ما يجعل المطالبة بالدولة المدنية أو دولة المواطنة مطلبا قائما حتى اليوم...
وحول دور الدين في تشكيل الولاء السياسي والاجتماعي، قال زاخر إن المسألة ترتبط بدرجة الوعي والثقافة السائدة في المجتمع، فكلما تعمق الوعي، تراجع الدور المنفرد للدين في توجيه المجتمع، باعتباره أحد مكونات الوعي وليس المكون الوحيد له.. وأكد أن الأزمة الحقيقية تبدأ حين ينفرد الدين بتشكيل الوعي، ويتم إقصاء عناصر الثقافة والعلم والإبداع، مشيرا إلى أن توظيف الدين سياسيا يتناسب طرديا مع درجة الاستبداد، فكلما زاد القمع، زادت الحاجة لاستخدام الدين كأداة للضبط والسيطرة..
وعن أساليب الضغط النفسي والاجتماعي باسم الدين، أوضح زاخر أن الخطاب الديني هو الأداة الأساسية، فالدين يصل إلى الناس عبر هذا الخطاب، وكلما خضع الخطاب الديني للرؤية السياسية، أصبح أداة لتحقيق أهداف السلطة، سواء كانت إيجابية أو سلبية.. وشدد على أن القضية ليست أبيض أو أسود، بل تتعلق بسلامة الخطاب ذاته، مؤكدا أن أي مجتمع يسعى للنهوض لا بد أن يضع التعليم والثقافة والإبداع في مقدمة أولوياته، بعيدا عن التوجيه الأيديولوجي...
وفي ما يخص استغلال الدين في التعليم والبرامج المجتمعية، أشار زاخر إلى أن المشكلة تبدأ من النص الدستوري الذي يمنح الدولة دينا رسميا، معتبرا أن هذا الأمر غير موجود في المجتمعات المتقدمة، لأن الدولة كيان اعتباري يضم مواطنين متنوعين في الأديان والأفكار.. وأضاف أن منح المؤسسات الدينية صلاحيات في التعليم العام، أو امتلاكها لمناهج موازية، يفتح الباب لتوجيه المجتمع دينيا، ويؤثر في النهاية على القرار السياسي، لافتا إلى أن الفتن الطائفية غالبا ما تستند إلى خطاب ديني متطرف يقنع أتباعه بأحقيتهم المطلقة في الوجود..
وأكد زاخر أن استغلال الدين كأداة للسيطرة يمثل تهديدا مباشرا لحرية المعتقد، ويظهر عمليا في إقصاء المختلفين من مواقع التأثير والصفوف الأولى، استنادا إلى تفسيرات فقهية أو دينية، مشيرا إلى أن الخسارة الحقيقية لا تقع على المواطن وحده، بل على الوطن نفسه، الذي يستمر في الدوران داخل ثلاثية الفقر والمرض والجهل رغم مرور عقود طويلة...
وحول ما تخشاه المؤسسات الدينية من كشف هذا الاستغلال، رأى زاخر أن عملية الكشف ذاتها معطلة، لأن الخطاب الديني والمجتمعي لا يتوقف عن تأكيد ضرورة المرجعيات الدينية، بينما تظل الدعوات المدنية محاصرة بأفق ضيق، ما يخلق دائرة مفرغة يصعب كسرها.. واعتبر أن الرهان الوحيد المتاح حاليا هو تصاعد الوعي لدى الأجيال الجديدة، في ظل العولمة والعالم الافتراضي، الذي بات مساحة أقل خضوعا للرقابة والسيطرة...
الفصل بين الدين والسلطة أصبح ضرورة ملحة لحماية حرية المعتقد وسلامة المجتمع.. الدين يجب أن يبقى وسيلة للإيمان والتوجيه الروحي، لا أداة للضغط أو السيطرة.. حماية المجتمع من استغلال الدين مسؤولية مشتركة.. قانونية و اجتماعية ومدنية، والا فان استمرار هذا الاستغلال يهدد ليس فقط حرية الأفراد.. بل نسيج المجتمع نفسه..
-----------------------------
تقرير – مادونا شوقي
الدين كغطاء للسيطرة.. كيف يستغل للتحكم في السياسة والمجتمع والمال؟ - المشهد الأسبوعية عدد 343






