- اللادينية صرخة بحث لا كفرًا… والتعليم الديني مطالب بمواجهة الإلحاد بالعقل
- المجتمع المصري غني بالتنوع، والتعايش ليس مجاملة، ونؤمن أن الله يعمل في قلب كل إنسان
في زمن تتكاثر فيه الأسئلة الوجودية، ويعيش فيه الإنسان المعاصر حالة قلق روحي واضطراب الإنساني، تبرز الحاجة إلى خطاب ديني هاديء لا يهرب من الأسئلة ولا يختبيء خلف إجابات جاهزة. في هذا السياق، يفتح الأنبا باخوم، المتحدث الرسمي والنائب البطريركي للكنيسة الكاثوليكية، مساحة صريحة للحوار حول قضايا تمس جوهر الإيمان وحياة الناس اليومية، من صمت الله وجفاف الصلاة، إلى ابتعاد بعض الشباب عن الكنيسة، وصعود أسئلة اللادينية، ودور التعليم الديني في مواجهة الإلحاد، وصولًا إلى مكانة المرأة، والعنف الأسري، وحدود الزواج والطلاق داخل الكنيسة.
حوار يتسم بالهدوء والوضوح، يوازن بين الإيمان والواقع، ويقدّم رؤية كنسية تسعى إلى الإصغاء قبل التعليم، والاقتراب قبل الإدانة، في زمن باتت فيه الأسئلة أعلى صوتًا من الإجابات.. وهذا نص الحوار:
* لماذا نشعر أحيانًا أن الله صامت؟ وهل الصمت رسالة أم اختبار؟
- أحيانًا يبدو لنا أن الله صامت، بينما الحقيقة أن صمته ليس غيابًا، بل طريقة مختلفة للكلام. الله لا يعمل وفق استعجالنا نحن، بل وفق حكمته وتوقيته. الصمت قد يكون مساحة لنتطهر من الضجيج الداخلي، مساحة ننضج فيها ونتعلم الثقة. الله كثيرًا ما يربّي القلب بالصمت أكثر مما يربّيه بالكلمات. الإيمان الكاثوليكي يعلّمنا أن الله حاضر حتى حين لا نشعر، وأن الصمت يمكن أن يكون رسالة، دعوة لأن نبحث عنه أكثر ونثبت في الصلاة. انفتاح القلب في لحظات الصمت قد يكون بابًا لوحي عميق.
* هل يمكن أن يعيش الإنسان حياة روحية حقيقية وهو لا يشعر بشيء في الصلاة؟
- نعم، لأن جوهر الإيمان ليس المشاعر، وإلا تحولت الصلاة إلى بحث عن إحساس لا عن لقاء. الكنيسة الكاثوليكية تربّينا على الثبات، فالصلاة ليست محاولة لاستجلاب مشاعر روحية، بل فعل حب. أنت تصلي لأنك تحب الله. القديسون الكبار مرّوا بسنوات من الجفاف الروحي، ومع ذلك استمروا. الحياة الروحية الحقيقية تُقاس بالأعمال والإخلاص، وبالوفاء لا بالانفعال.
* هل الكنيسة أحيانًا بعيدة عن هموم الناس اليومية؟ وماذا يمكن أن يتغير؟
- الكنيسة جسد حي، هي شعب الله. الكنيسة الكاثوليكية تحمل في قلبها مسؤولية الضعيف، والتعليم البابوي يؤكد دائمًا على “كنيسة تخرج إلى الأطراف”. الكنيسة لا تكتفي بأن تعلّم، بل تسمع وتشارك. المطلوب أن تكون قريبة من الواقع، من الألم والفرح معًا.
* لماذا يوجد شباب كثيرون في الكنيسة جسديًا لكن ليس بقلوبهم؟
- لا نستطيع أن نعمم، فهناك العديد من الشباب، مثل كل الفئات العمرية، في خدمة الكنيسة ويقومون بأعمال جميلة. لكن البعض منشغل بواقع وصعوبات حياتية أو انشغالات أخرى. الكنيسة لا تدين، بل تحاول قدر الإمكان أن تقابل الجميع وتقدّم ما تستطيع.
* كيف تتعامل الكنيسة مع الجيل الذي يميل إلى اللادينية؟
- اللادينية ليست كفرًا دائمًا، بل أحيانًا صرخة بحث. كثيرون لا يرفضون الله، بل يرفضون صورًا مشوهة عنه. نقترب منهم بالصداقة لا بالمواجهة، ونسمع قبل أن نجيب. الإيمان لم يُفرض يومًا بالقوة بل بالحب. وإذا استطاعت الكنيسة أن تُظهر وجه المسيح الرحيم لا القاسي، ستفتح أبواب الرجوع. اللادينية لا تُعالج بالإدانة بل بالشهادة.
* هل التعليم الديني قادر على مواجهة تحديات الشباب؟
- بالتأكيد، لكننا نحتاج أيضًا إلى تعليم يمس الواقع، يواجه الإلحاد العلمي بالمنطق، ويجيب عن أسئلة الجنس والحرية والهوية دون خوف أو هروب. الكنيسة الكاثوليكية لديها تراث لاهوتي عميق، لكن المطلوب تقديمه بلغة يفهمها الجيل الجديد. الشباب لا يحتاج فقط إلى معلومة، بل إلى معنى، وحين يصبح التعليم قادرًا على خلق معنى، يصير أكثر قوة وتأثيرًا.

* هل توجد قوانين أو تقاليد في الزواج الكاثوليكي قد تظلم المرأة؟
- جوهر الزواج الكاثوليكي قائم على مساواة الرجل والمرأة في الكرامة والحقوق. التقاليد لا تظلم المرأة. الكنيسة بحاجة دائمة إلى مراجعة عادات اجتماعية لا عقائدية، فالإيمان لا يناقض كرامة المرأة بل يرفعها. الزواج سرّ مقدس، وليس ملكية ذكورية. الرجل والمرأة يسيران معًا، لا أحد أفضل من الآخر، وهذا ما يجب أن يظهر عمليًا.
* هل تتعامل الكنيسة بفعالية مع العنف الأسري؟
- الوعي يتزايد، لكننا نحتاج شجاعة أكبر. العنف الأسري جريمة وليس "شأنًا داخليًا". نحاول بشتى الطرق تقديم دعم نفسي وقانوني وروحي للضحايا، فالكنيسة مدعوة لأن تكون ملجأً للمنسحقين.
* متى يكون الطلاق مشروعًا؟
- لا طلاق في الكنيسة الكاثوليكية. ما يوجد هو ما نسميه في القانون "إعلان بطلان الزواج"، وذلك لوجود سبب مانع للزواج أو لغياب الرضا الحر وقت إتمام السر والطقس. الصعوبات اللاحقة لا تسبّب إعلان البطلان، إلا إذا كانت ناتجة عن أمر خفيّ كان موجودًا قبل الزواج.
* هل تخاف الكنيسة من تمكين المرأة في المناصب القيادية؟
- الكنيسة الكاثوليكية عبر تاريخها شهدت نساء قديسات علّمن، وأدرن أديرة، وقدن إصلاحات كبرى. المشكلة ليست في الإيمان، بل في الثقافة المحيطة. نحن نحتاج إلى ثقافة تشهد بكرامة المرأة عمليًا، وتمنحها مساحة قيادية حقيقية في التعليم والإدارة. تمكين المرأة ليس تهديدًا للكنيسة، بل غنى لها.
* ما تقييمك لدور المرأة داخل الكنيسة؟
- المرأة هي نبض الخدمة الاجتماعية، وحاملة الرحمة، والمعلمة الأولى في البيت والرعية. وجودها ليس تكميليًا، بل جوهريًا. وكلما ارتفع صوت المرأة، اتسع وجه الكنيسة ليشبه مريم: الأم، والمعلمة، والخادمة.
* هل تُتخذ قرارات أحيانًا حفاظًا على الصورة بدل العدالة؟
- الإنجيل يدعونا إلى الشفافية. العدالة ليست عكس الرحمة، بل طريقتها الصحيحة. الإصلاح يبدأ بالصدق، والله لا يبارك ما يُغطّى بل ما يُشفى.
* هل توجد طبقية داخل الكنيسة؟
- الطبقية عكس مفهوم الكنيسة، لأن الكنيسة هي شعب الله، جماعة مسيحية لا فرق فيها بين غني وفقير.
* كيف ترى التعايش بين الأديان في مصر؟
- المجتمع المصري غني بالتنوع، والكنيسة الكاثوليكية تلعب دورًا مهمًا في الحوار والتعاون. التعايش ليس مجاملة، بل مشاركة إنسانية. نحن نؤمن أن الله يعمل في قلب كل إنسان، وأن الاختلاف ليس تهديدًا بل جسرًا للسلام. الإيمان الذي لا يلد سلامًا ليس إيمانًا كاملًا.
* هل تحتاج الكنيسة إلى تغيير أسلوب تواصلها؟
- العالم اليوم سريع وصريح. الكنيسة الكاثوليكية مدعوة، كعادتها، إلى التواصل. الرسالة نفسها أبدية، لكن الزمن تغيّر، والكنيسة تسعى إلى مواكبة هذا التغيير.
----------------------------
حوار: مادونا شوقي
الأنبا باخوم من صحيفة المشهد الأسبوعية






