31 - 12 - 2025

رحيل بيغوم خالدة ضياء: سيرة كفاح وقيادة وإرث سياسي

رحيل بيغوم خالدة ضياء: سيرة كفاح وقيادة وإرث سياسي

طويت في بنغلاديش صفحة من أكثر صفحات تاريخها السياسي كثافة وتأثيرا، برحيل رئيسة الوزراء السابقة ورئيسة الحزب الوطني البنغلاديشي، أكبر الأحزاب السياسية في البلاد، بيغوم خالدة ضياء. فغيابها لا يعني أفول شخصية عامة فحسب، بل إيذانا بانقضاء حقبة كاملة شكلت، على امتداد عقود، ملامح السلطة، وإيقاع الديمقراطية، وثقافة الفعل السياسي في البلاد. لقد ارتبط اسمها بعودة الحكم المدني بعد سنوات العسكر، وبترسخ الثنائية الحزبية، وباستقطاب حاد رسم حدود المشهد السياسي وحدد مساراته.

ولدت بيغوم خالدة ضياء في الخامس عشر من أغسطس عام 1945، وتبوأت منصب رئاسة وزراء بنغلاديش ثلاث مرات، كان لها خلالها شرف قيادة شؤون الدولة لفترتين كاملتين، امتدتا من عام 1991 إلى 1996، ومن عام 2001 إلى 2006. وبعد معاناة طويلة مع أمراض مزمنة ومعقدة، أسلمت روحها في الثلاثين من ديسمبر عام 2025 أثناء تلقيها العلاج في دكا، عن عمر ناهز ثمانين عاما.

كان صعود خالدة ضياء تعبيرا عن لحظة مفصلية في تاريخ بنغلاديش. ففي أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ومع انحسار الحكم العسكري وتنامي التطلع إلى الديمقراطية، برزت بوصفها فاعلا رئيسا على المسرح السياسي. وتحت قيادتها، لم يكن الحزب الوطني البنغلاديشي مجرد إطار تنظيمي، بل تحول إلى تيار وطني واسع، استوعب تطلعات شرائح اجتماعية مختلفة. ومع مطلع التسعينيات، تولت رئاسة الوزراء لتغدو أول امرأة تشغل هذا المنصب في تاريخ البلاد، في لحظة أعادت تعريف حضور المرأة في القيادة السياسية، ليس داخل بنغلاديش وحدها، بل في فضاء جنوب آسيا بأسره.

خلال فترتي حكمها، أسهمت في إعادة بناء الحياة البرلمانية، وطرحت بقوة سؤال السيادة المدنية في إدارة الدولة، ووسعت هامش التعددية الحزبية والمشاركة السياسية. واتخذت قرارات في الإدارة والاقتصاد والسياسة الخارجية تركت بصماتها على المسار العام للدولة. رأى أنصارها فيها قيادة صلبة ورمزا للاستقلال الوطني، بينما نظر إليها منتقدوها بوصفها شخصية مثيرة للجدل. غير أن المراقبين الدوليين أجمعوا على أن تجربتها شكلت فصلا محوريا في رحلة بنغلاديش الديمقراطية، بما حملته من إنجازات وتناقضات.

أما في أسلوب القيادة، فقد تميزت خالدة ضياء بصلابة نادرة وقدرة لافتة على الصمود. فحتى بعد خروجها من السلطة مرارا، حافظت على تماسك حزبها، وسعت إلى إبقاء المعارضة حاضرة وفاعلة في قلب الحياة السياسية. ومن خلال الانتخابات، والحركات الاحتجاجية، والمقاطعات، والمواقف الحادة، أبقت قوة سياسية كبرى في حالة حركة دائمة، وأسهمت في صون وجود الصوت المعارض داخل النظام. بدا خطابها صارما في نظر كثيرين، غير أن مؤيديها رأوا فيه تعبيرا عن عدم المساومة في الدفاع عن الحقوق الديمقراطية.

بلغ الاستقطاب السياسي في بنغلاديش ذروته في المرحلة التي كانت فيها خالدة ضياء ركنا أساسيا من أركانه. ولم يقتصر هذا الاستقطاب على التنافس الشخصي أو الحزبي، بل امتد إلى مؤسسات الدولة، والنظام الانتخابي، والثقافة السياسية ذاتها. ويرى محللون دوليون أن هذا الاستقطاب، على حدته، أسهم من جهة في إبقاء المشاركة الشعبية حية، لكنه من جهة أخرى أفضى إلى دورات متكررة من الصدام والشلل السياسي. وفي قلب هذه المعادلة المعقدة، ظلت خالدة ضياء شخصية لا يمكن تجاوزها عند قراءة التاريخ السياسي الحديث للبلاد.

كانت سنواتها الأخيرة قاسية على المستويين الإنساني والسياسي. فقد واجهت أحكاما قضائية في قضايا فساد، وفترات من السجن، وأمراضا مزمنة، وقيودا مشددة على العلاج. رأى أنصارها في ذلك استهدافا سياسيا، فيما عده خصومها تجسيدا لسيادة القانون. أما في الخارج، فقد أثارت هذه التطورات نقاشا أوسع حول العلاقة المتشابكة بين القضاء والسياسة وحقوق الإنسان في جنوب آسيا. ومع ذلك، ظلت، رغم القيود، رمزا معنويا لقيادة المعارضة، بما يعكس عمق حضورها وتأثيرها.

إرث خالدة ضياء، في المحصلة، إرث متعدد الأبعاد. فهي من جهة إحدى أبرز وجوه مرحلة العودة إلى الديمقراطية، ومن جهة أخرى تمثل واقعا سياسيا تشابكت فيه القيادة بالصراع والاستقطاب. ولا يمكن تقييم تجربتها بميزان سنوات الحكم وحدها، بل بقدرتها على التأثير من خارج السلطة، وبالدور الذي لعبته في تشكيل لغة المعارضة وبنيتها. فالكثير من ملامح السياسة البنغلاديشية الحديثة تبلورت في ظل حضورها.

وعلى الصعيد الدولي، تدرج خالدة ضياء ضمن قادة جنوب آسيا الذين خاضوا السياسة في ظل صراع دائم بين الحكم والمعارضة. وتجربتها تقدم مثالا حيا على تعقيدات الديمقراطيات الناشئة في المنطقة، حيث تتداخل الانتخابات بالحركات الاحتجاجية، ويتشابك القضاء بالسياسة في شبكة دقيقة من المصالح والتوازنات.

برحيلها، تقف بنغلاديش عند عتبة مرحلة جديدة. فمستقبل الحزب الوطني البنغلاديشي، ومسار المعارضة، وإعادة تشكيل القيادة والاستراتيجيات السياسية، كلها أسئلة باتت مطروحة بإلحاح. وفي الوقت نفسه، تتيح هذه اللحظة فرصة لإعادة التقييم والمراجعة لدى مختلف الفاعلين السياسيين. ويولي المراقبون الدوليون أهمية خاصة لهذه التحولات، لما تحمله من دلالات على الاستقرار السياسي في البلاد وعلى توازنات الإقليم.

وفي النهاية، كانت بيغوم خالدة ضياء زعيمة حافظت على حضورها السياسي رغم القيود، وطبعت مسار السياسة البنغلاديشية ببصمتها لعقود. وبرحيلها، يغلق فصل من تاريخ البلاد، غير أن الأسئلة والتأثيرات والإرث الذي خلفته سيظل حاضرا في الذاكرة الوطنية وفي مسيرة بنغلاديش الديمقراطية.

هكذا دخلت خالدة ضياء سجل التاريخ رمزا للكفاح والقيادة والصلابة السياسية، فصلا لا يمكن تجاوزه في سردية بنغلاديش المعاصرة، يجمع بين الإلهام والجدل، ويؤكد أن أثرها سيبقى موضوعا لإعادة القراءة والتقييم مع كل منعطف جديد في رحلة الديمقراطية.
--------------------------------
بقلم: أحمد شوقي عفيفي
* كاتب بنغالي وداعية إسلامي