31 - 12 - 2025

أفندينا يبيع مصر!

أفندينا يبيع مصر!

قبل البدء أريد أن أعتذر لصاحب العنوان ، وهو المرحوم الصحفي القدير محسن محمد ..

علي إحدي صفحات كتابه الخالية، وجدت أنني كتبت السطور التالية قبل سنوات عديدة: " صندوق التاريخ مليء بالحوادث والتجارب التي تمثل ما يتماثل مع عناصر التجارب المعملية العملية في مختلف العلوم ، سواء بالملاحظة أو بالبيانات الرقمية والإستنباط ..

تلك الحوادث والتجارب التاريخية تحتفظ في ذاتها بمكنون إعمال الفكر الإنساني في مواجهة الخطر ، من خطر البقاء علي قيد الحياة في صورته الأولي، إلي خطر التهديد الوجودي علي مستوي الجماعات والأمم ..

ومن طبيعة هذا الصندوق الخاص أن مقتنياته ليست مجرد عاديات تعرض في فتارين الكتب لتزجية الوقت وتسلية البشر، كما أنها لذلك ليست مجرد نماذج أو مادة خام يمكن استعارتها أو تلبيسها لأحداث وتجارب معاصرة، إنما تظل مع ذلك إضاءات لازمة تساعد الجادين في معامل اتخاذ القرار علي استخلاص العبر والنتائج وإجراء المقارنات مع مرعاة الفوارق بطبيعة الحال " ..

وهنا انتهي النص الخاص الذي تسللت به بين صفحات كتاب الأستاذ الصحفي الكبير.

يمكن أن أقول إن في مكتبتي "مكتبات"، تحمل في أركانها شرائح من أزمنة عشتها، وأماكن حملت خطواتي .. مكتبة من زمن الطفولة والصبا احتشدت بكتب ومجلات وبعض صفحات الصحف التي حال لونها (وخاصة مقالات بصراحة للأستاذ محمد حسنين هيكل التي كنت أهتم بقصها من الجريدة والإحتفاظ بها).. ثم كانت هناك مكتبة زمن الجبهة التي صاحبتني في الخنادق، وكانت بعض كتبها تشهد معي دوريات الصاعقة في الصحاري والوديان وفوق الجبال، فقد كنت أحرص قبل أي دورية أن أحمل في " الجربندية " كتاباً أو كتابين، أشبع بها نهمي في القراءة كلما حانت فرصة راحة أو توقف طويل، وبعد العودة من الحرب، كانت هذه المكتبة أساس مكتبة أسستها في الكتيبة للقراءة الحرة، وكنت أشجع من خلالها الجنود علي الإلتحاق بدروسي في محو الأمية.. ثم كانت هناك، طول الوقت، مكتبة بيت أسرة أبي وأمي التي تزاحمت فيها كتبي مع كتب الأسرة، وظلت قابعة في بيت الحاج مرزوق بعد زواجي.. ثم هناك أخيراً المكتبة الكثيفة التي كونتها في سنوات الترحال الدبلوماسية الطويلة والتي جاوزت الثلاثين عاماً..

كنت في صباي أدخر مصروفي البسيط كي أشتري كتباً ومجلات، حيث كان العهد الناصري يوفر الثقافة لمن أراد الإغتراف  منها بأسعار زهيدة، لدرجة أن المصروف المدخر كان يتيح لي أيضاً التردد علي دور السينما، بل والمسرح (خاصة مجموعة مسارح العتبة – القومي والطليعة والدائري).

وبعد أن استقر ترحالي بعد تقاعدي من عملي الدبلوماسي، كنت قد أعددت قبل سنوات في منزلي مكتبة كبيرة، ضمت كل "المكتبات" السابقة، بما في ذلك مكتبة بيت الأسرة القديم، والتي لم أنقلها إلا بعد أن ودعنا أبانا العظيم وأمنا الحنون، حيث لم أجد من اللائق أن أسحب شيئاً منها خلال حياتهما.

وهكذا تنوعت الأركان حالياً في مكتبتي، ومن حين لآخر استمتع بالقفز بين الأزمنة المختلفة، فأجذب كتاباً من زمن الصبا أو زمن الخنادق، أو زمن الترحال الأنيق.. وفي كل مرة أندهش وكأنني أقرأ الصفحات لأول مرة، وأقرأ بعجب (وربما ببعض الإعجاب أحياناً)، بعض التعليقات التي اعتدت أن أبثها علي هوامش الكتب أثناء قراءتها، وقد أضيف تعليقات أخري أثناء القراءة الحديثة، وهكذا يتكون في هوامش كتبي ما يصلح في حد ذاته لإصدار كتب أخري! ..

واليوم، وبينما كنت أتأمل إلي باب الخروج الذي اقتربت خطواتي منه حثيثاً، وجدت أمامي كتاباً حالت أوراقه، وتمزق غلافه (وهذا طبيعي من كثرة النقل وعمليات الصيانة والتنظيف)، للكاتب الصحفي صاحب العبارات الشيقة الأستاذ محسن محمد (وهو بالمناسبة والد أحد الزملاء في الخارجية)، الكتاب بعنوان: "أفندينا يبيع مصر"، وللأسف نزعت بعض صفحاته فلم أتبين تاريخ إصداره (وربما لذلك حكمة تمنحه الأزلية)، يتحدث الكتاب عما ورد في الوثائق السرية عن تاريخ مصر، وعلي وجه الأخص في عهد الخديو إسماعيل (أفندينا) ...

يصفه في الصفحات الأولي بأنه: "حاكم .. نصفه فرعون.. ونصفه هارون الرشيد".. " أمير المسرفين ، ومقتر يحاسب علي القرش" .. "طاغية مستبد ، وينشئ – رغم ذلك – أول مجلس نيابي في مصر".. ونقل عن اللورد ملنر وصفه لإسماعيل في كتابه (إنجلترا في مصر): "بأنه المثل الكامل للتبذير وأعظم من عرف في التاريخ بالسفه.. كانت له أعمال جنونية تشبه في ضخامتها الإهرامات أو معبد الكرنك" ...

وقد دعا السلطان عبد العزيز لزيارة مصر، فجاءها لمدة عشرة أيام، وكانت أول مرة يزور فيها السلطان التركي مصر بعد أربعة قرون من قدوم السلطان سليم الأول فاتحاً وغازياً.. وفي هذه الزيارة قدم إسماعيل أول رشوة للصدر الأعظم – فؤاد باشا – ٦٠ ألفاً من الجنيهات، وغمر السلطان ووالدته ووزراءه ورجاله بالهدايا ثم تتابعت الرشاوي، ورفع الجزية التي تدفعها مصر سنوياً من ٣٠٠ ألف جنيه إلي ٧٥٠ ألف جنيه كل عام ..إلخ .

وجدت نفسي غارقاً بين صفحات الكتاب، وكأنني أقرأه لأول مرة، ولكنني وجدت علي ظهر صفحة خالية في الكتاب تلك السطور التي صدرت بها هذا المقال، فزادت دهشتي أن يجد فتي في عمر البراءة تلك المعاني التي تشبه المعادن النفيسة التي لا تصدأ أبداً.
---------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق


مقالات اخرى للكاتب

فقه الحروب (6/6) | الحدود الأمنية الزرقاء!