من ترك في جيلنا والجيل الذي قبلنا أثرًا كما فعل هو؟ من صاحب الأعمال التي شاهدناها وشكَّلت وعينا ووجدانا وحفرت داخلنا قيمًا ومُثُلًا وأخلاقًا؟
لو سألت مواليد السبعينات والثمانينات، عن تأثير فنان من فناني مصر على حياتهم وأخلاقهم ووعيهم، سيكون أول من يخطر ببالهم هو الفنان الكبير محمد صبحي، فمن يتابع مسيرته الفنية يدرك جيدًا أن وعيه لم يكن يومًا نظريًا أو خطابيًا، بل تُرجم عمليًا إلى أعمال درامية هدفت إلى تربية الوعي قبل تحقيق المشاهدة، فقدَّم إلينا نموذج الأب المربي لا الواعظ في سلسلته الشهيرة “بابا ونيس”، فناقش قضايا الأسرة، والضمير، والانتماء، واحترام العقل، بلغة بسيطة وصلت إلى البيوت المصرية والعربية دون استعلاء أو ابتذال، وساهم في تشكيل وجدان أجيال كاملة.
وجاء مسلسل “فارس بلا جواد”، في بداية الألفية الثانية، ليخوض منطقة شديدة الحساسية، ويطرق باب الفكر والبحث في عقولنا، كاشفًا من خلاله زيف السرديات التاريخية ومستخدمًا الدراما كوسيلة تنوير لا ترفيه.
لم تكن هذه الأعمال - التي ذكرت نموذجين فقط منها - مجرد مسلسلات، بل مشروعات وعي بقي تأثيرها حيًا حتى اليوم، أصبح محمد صبحي من خلاله رمزًا للفنان الذي يرى في الشباب مسؤولية لا جمهورًا فقط.
لم يُدرك مرتزقة الإعلام، الذين صعَّدوا موجة ضد الأستاذ، هذا الواقع، ولم يدركوا أن موقفه ورأيه الذي عبَّر عنه بوضوح، لطالما كان جزءًا أصيلًا من شخصيته ومسيرته في أعماله الفنية.
محمد صبحي ليس فنانًا عابرًا في تاريخ الفن المصري، بل هو واحد من القلائل الذين ربطوا الفن بالوعي، والمسرح بالرسالة، والضحك بالسؤال الصعب، اختار على مدار مسيرته أن يكون صاحب موقف حتى لو كلَّفه ذلك الابتعاد عن دوائر النفوذ والظهور وخسارة فرص أسهل وأكثر ربحًا.
لم يُهاجم مرتزقة الإعلام، الأستاذ محمد صبحي، بسبب رأيه أو موقفه الواضح والصريح، هاجموه لاختلافه عنهم، فهو لم يُغيِّر جلده، لم يُناقض نفسه، ولم يتراجع عن مبادئه مقابل المال كما فعلوا هم، فهو نفس الرجل الذي انتقد الإسفاف الفني قبل أن يصبح تريند، ورفض الابتذال وهو في قمة نجوميته، وآمن أن الفن رسالة ومسؤولية لا سلعة فقط تُباع وتُشترى.
المفارقة أن بعض الإعلاميين الذين هاجموه، هم أنفسهم من مجَّدوا أعماله سابقًا ووصفوه بـ “ضمير المسرح”، و”فنان القيم”، لكن يبدو أن ذاكرة الإعلام قصيرة أو انتقائية تتغير بتغير المزاج العام أو اتجاه البوصلة.
الاختلاف مع الفنان حق مشروع، لكن الهجوم الشخصي والتشويه لا علاقة له بالرأي، المجتمعات الحية تُناقش لا تُقصي، تحاور لا تُخوِّن، تحترم رموزها حتى وهي تختلف معهم، وسيبقى الأستاذ محمد صبحي بالنسبة للمصريين رمزًا لا يُسمح بإهانته أو التقليل منه، كما سيبقى المرتزقة مرتزقة لا وزن لهم ولا تاريخ ولا تأثير.
-------------------------
بقلم: إيمان جمعة
من المشهد الأسبوعية
من العدد 343 لصحيفة المشهد






