من أهم المعضلات التي ناقشها العلم العسكري كيفية قيام قوات نظامية بالتعامل مع قوات غير نظامية، ولقد سافر موشيه دايان إلي فييتنام كي يدرس عن قرب أساليب الفيت كونج وكيفية التعامل معها .. وهناك كتابات عديدة في هذا الشان ..
وأهم سؤال كان "هل يمكن حسم المعركة باستخدام القصف الجوي؟".
هناك نظريات عديدة ، فقد ذهبت مدرسة إلي أن القوات الجوية توفر السرعة والمرونة وقوة النيران التي لا تتوفر للقوات البرية، وفضلاً عن قدراتها التدميرية الهائلة فإن أثرها المعنوي فعال ، خاصة إذا استخدمت بذكاء ..
إلا أن منتقدي هذه المدرسة يرون أن أثر استخدام القوات الجوية محدود في هذا النوع من العمليات، لأن طبيعة حرب العصابات تتيح الانتشار وعدم تركز قوات الإرهابيين (أو المقاتلين) في منطقة واحدة، بينما يؤدي القصف الجوي إلي خسائر في السكان المحليين غير المتورطين في أعمال قتالية، ويترتب علي ذلك ازدياد الغضب ، وتوسيع رقعة المتعاطفين مع الإرهابيين.
بعد انتهاء الحرب العالمية الاولي مثلا، كانت إحدي مشاكل الإمبراطورية البريطانية هي كيفية السيطرة علي المساحات الشاسعة التي أصبحت خاضعة لها، وخاصة في الشرق الأوسط ، وحينذاك تفتق ذهن وزير الحرب ونستون تشرشل (نعم هو نفسه رئيس وزراء بريطانيا في زمن الحرب العالمية الثانية) ، في ربيع ١٩٢٠ عن استخدام القوات الجوية دون الحاجة للاحتفاظ بخطوط ممتدة تأكل الرجال والأموال.. ورأي أنه للسيطرة علي القبائل المتمردة في العراق فلا مانع من قصفهم بالغازات (تخيلوا الإجرام) حتي يمكن نشر الحضارة في هذه الأرض التي يسكنها برابرة ..
إلا أن قائد القوات البريطانية في الهند رفض بشدة هذه الأفكار التي طبقت في العراق، وقال إن ضميره لا يسمح بقصف قري يسكنها آلاف النساء والأطفال والشيوخ للقضاء علي ألف أو ألفي متمرد.. ذلك أمر لا ينبغي لدولة عظمي تحترم نفسها أن تقوم به ..
ولقد استقر الخبراء العسكريون علي محدودية أثر القصف الجوي في مواجهة مجموعات مسلحة صغيرة، وهناك أمثلة عديدة لفشل هجوم الهليكوبتر بأعداد كبيرة في مواجهة الفيت كونج في فيتنام ..
ومع ذلك يمكن للاستخدام الذكي أن يحقق نوعاً من السيطرة التي تكون بمثابة حصار جوي لمنطقة معينة مع دفع قوات خاصة مزودة بأجهزة رؤية ليلية لاقتحام مناطق ثم تأمينها ودفع قوات مشاه ومدرعات لاحتلالها بشكل الدفاع الدائري، وباستخدام استراتيجية القضمات (الخرشوفة)، يتم تدريجياً تضييق الحصار، مع استخدام مكثف لأساليب الحرب الدعائية ، وفي كل الأحوال من المهم عدم خسارة السكان المحليين حتي ولو أدي ذلك إلي بعض الخسائر التكتيكية ..
-------------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق
الحلقات السابقة من "فقه الحرب"







