30 - 12 - 2025

من بكين إلى هاينان… حين ترى الصين بعين الصحفي لا بعناوين الأخبار

من بكين إلى هاينان… حين ترى الصين بعين الصحفي لا بعناوين الأخبار

لم تكن الأشهر الأربعة التي قضيتها في الصين ضمن برنامج التبادل الإعلامي لعام 2025 مجرد تجربة مهنية عابرة، بل كانت رحلة لإعادة النظر في كثير من المسلّمات الجاهزة التي تشكّلت عبر سنوات من التغطيات غير المباشرة، والعناوين السريعة، والقراءات المؤدلجة التي كثيرًا ما تحيط بالصين في الإعلام الدولي.

في بكين، لم تكن الصورة مقتصرة على مبانٍ عملاقة أو خطاب رسمي منمّق، بل على تفاصيل يومية تكشف كيف تفكّر دولة بحجم الصين في المستقبل.

العرض العسكري في ميدان «تيان آن مِن» في الثالث من سبتمبر، الذي لم ألحق به لتأخري عن باقي الزملاء، لم يكن مشهدًا للقوة بقدر ما كان رسالة سياسية محسوبة، مفادها أن الردع بالنسبة للصين هو أداة لحماية الاستقرار، لا مدخلًا للمغامرة أو فرض النفوذ.

وفي تيانجين، خلال قمة منظمة شنغهاي للتعاون، بدا واضحًا أن بكين تسعى إلى ترسيخ خطاب بديل في الحوكمة العالمية، يقوم على الشراكة لا الوصاية، وعلى التنمية المشتركة لا الصراع الصفري. مبادرة الحوكمة العالمية التي طُرحت هناك لم تأتِ في فراغ، بل انسجمت مع ما لمسناه لاحقًا على الأرض في مختلف المقاطعات.

لكن الصورة الأكثر عمقًا لم تتشكل في القاعات المغلقة، بل في الحقول والمصانع والشوارع، في شنغهاي، ترى كيف تتحول التكنولوجيا إلى جزء من الحياة اليومية.

ومن بين المحطات التي تركت أثرًا خاصًا في الذاكرة، جاءت مدينة ووشي بمقاطعة جيانغسو ، التي بدت كلوحة مفتوحة تجمع بين الطبيعة الهادئة والتخطيط الحضري المتوازن.

في هذه المدينة، لا تُقدم الحداثة باعتبارها قطيعة مع الجمال، بل امتدادًا له؛ بحيراتها، ومساحاتها الخضراء، وتفاصيلها المعمارية، تعكس فهمًا صينيًا عميقًا لفكرة «العيش المتناغم» بين الإنسان والمكان، وهو ما يجعل التنمية هنا تجربة محسوسة لا مجرد أرقام في تقارير رسمية.

وفي مقاطعة جيانغشي، تتبدّى صورة أخرى للصين، أقل صخبًا وأكثر قربًا من الجذور، القرى الخلابة المنتشرة بين الجبال والحقول لا تعيش على هامش التحديث، بل تشارك فيه وفق إيقاعها الخاص.

هناك، تلمس كيف تُدار التنمية الريفية بوصفها جزءًا أصيلًا من المشروع الوطني، لا عبئًا عليه، وكيف تتحول القرى إلى مساحات إنتاج وحياة، تحافظ على هويتها الثقافية، وفي الوقت نفسه تستفيد من البنية التحتية الحديثة والتعليم والتكنولوجيا.

أما في مقاطعة هاينان، فتكتشف نموذجًا للانفتاح الاقتصادي يحاول الجمع بين السوق الحرة والسيادة الوطنية، في معادلة نادرًا ما تنجح في أماكن أخرى.

أما بكين، فلم تكن مجرد عاصمة سياسية، بل مركزًا ثقافيًا وفكريًا كثيف الطبقات، بين الأزقة القديمة والمراكز الحديثة، تتجاور عصور مختلفة، وتتشابك ثقافات متعددة، في مدينة تدرك جيدًا ثقل التاريخ وضرورات المستقبل.

هذا التنوع لم يكن مرئيًا فقط في الشارع، بل انعكس بوضوح في طبيعة المحاضرات والبرامج التدريبية التي تلقيناها، والتي شكّلت جزءًا محوريًا من التجربة.

خلال البرنامج، شاركنا في العديد من المحاضرات التي تناولت قضايا التحديث الصيني، وأنماط الحوكمة، وإدارة الدولة في ظل التحولات العالمية، إلى جانب جلسات متخصصة حول اللغة العربية ودورها في التواصل الثقافي والإعلامي بين الصين والعالم العربي.

كما أتاحت لنا بعض الورش التعرف على جوانب من الفنون الصينية، مثل الرسم التقليدي وفن الأحبال، إضافة إلى محاضرات عن الرياضة الصينية بوصفها جزءًا من الثقافة المجتمعية، لا مجرد نشاط تنافسي.

هذه الأنشطة لم تكن ترفًا ثقافيًا، بل مدخلًا لفهم أعمق لكيف ترى الصين نفسها، وكيف تسعى إلى تقديم روايتها للعالم، ليس عبر السياسة فقط، بل عبر الثقافة، والفن، والتعليم، وأنماط الحياة اليومية، وهو ما أضاف بُعدًا إنسانيًا للتجربة، ووسّع زاوية الرؤية لدى الصحفي، بعيدًا عن القراءة الأحادية أو النمطية.

ما لفت انتباهي، كصحفية، هو أن الصين لا تقدّم نموذجًا واحدًا جامدًا، بل إطارًا عامًا يسمح بالتنوع داخل الوحدة. هذا ما رأيناه في 16 منطقة مختلفة، لكل منها خصوصيتها، لكنها جميعًا تتحرك ضمن رؤية مركزية واضحة.

هنا لا تُترك التنمية للصدفة، ولا يُدار الاقتصاد بردود الفعل، بل بخطط طويلة الأمد قد تختلف في تفاصيلها لكنها تلتقي في أهدافها.

الإعلام الصيني، الذي كثيرًا ما يُنظر إليه خارجيًا بنظرة تبسيطية، كشف خلال الدورات التدريبية عن اهتمام متزايد بتطوير الأدوات الرقمية، وبناء سرديات أكثر قدرة على مخاطبة الخارج، دون التخلي عن مفهوم المسؤولية الاجتماعية.

قد لا يتطابق هذا النموذج مع القوالب الغربية الجاهزة، لكنه يعكس فهمًا مختلفًا لدور الإعلام في مجتمع يضع الاستقرار والتنمية في صدارة أولوياته.

كلمة مساعد وزير الخارجية الصيني، هونغ لي، خلال حفل الختام، كانت لافتة في هدوئها ووضوحها.

لم يتحدث عن دعاية أو ترويج، بل عن ثقة في أن الصحفي الذي يرى الواقع بنفسه سيكون أقدر على تقديم صورة متوازنة حديثة عن آلاف المواد الصحفية التي أُنجزت خلال البرنامج لم يكن احتفاءً بالكم، بقدر ما كان رهانًا على النوع، التحليل، والسياق، والابتعاد عن الأحكام المسبقة.

ومن أبرز جوانب البرنامج التي أثرت في شخصيتي المهنية والفكرية، كان التنوع الثقافي للمشاركين، حيث ضم البرنامج نحو 100 مشارك من مختلف الدول الأمريكية والأوروبية والأفريقية.

هذا الاختلاط الثقافي لم يقتصر على مجرد التعارف، بل كان له دور كبير في توسيع آفاق التفكير، وفهم طرق نظر مختلفة للعالم، ومقارنة التجارب الإعلامية والثقافية عبر القارات.

الصين، في هذا السياق، نجحت في جمع ثقافات متنوعة من مختلف أنحاء العالم تحت مظلة واحدة، ما أتاح فرصة حقيقية لتبادل الخبرات، واكتساب فهم أعمق للعلاقات بين الإعلام والمجتمع، بعيدًا عن الصور النمطية، ومنح التجربة بعدًا عالميًا إنسانيًا حقيقيًا

ربما لا يمكن اختزال زيارة الصين في أربعة أشهر، ولا في تجربة واحدة، لكن ما خرجتُ به هو قناعة بسيطة، لا يمكن فهم هذا البلد من خلف الشاشات.

الصين لا تطلب من العالم أن يقلّدها، لكنها تقدّم نموذجًا بديلًا يقول إن طريق التنمية ليس واحدًا، وإن لكل مجتمع حقه في اختيار مساره وفق تاريخه وثقافته واحتياجاته.

وأنا أختتم رحلتي إلي بكين، لا يسعني إلا أن أعبر عن تمنياتي الصادقة بالعودة إلى الصين مرة أخرى، لاستكمال رحلة الاكتشاف والتعلّم، وللاحتكاك أكثر بثقافاتها المتعددة وروح شعبها المبدع.

الصين بالنسبة لي لم تكن مجرد تجربة مهنية، بل نافذة على عالم متنوع الألوان، ثري بالفكر والتاريخ، ومليء بالدروس التي تتجاوز حدود الصفحات والشاشات.

وأمل أن تكون المرة القادمة فرصة لأغوص أعمق في تفاصيل هذا البلد الرائع، لأستمر في رحلة الفهم، ولأحمل إلى العالم صورة أكثر اكتمالًا وصدقًا عن الصين كما هي، بعين الصحفي المتأمل لا بعناوين الأخبار.
------------------------------
بقلم: أميرة الشريف

مقالات اخرى للكاتب

من بكين إلى هاينان… حين ترى الصين بعين الصحفي لا بعناوين الأخبار