هاتفني قارئ مصري يعيش في الخارج وسألني بغتة: ما رأيك في فلان؟ فلذت بصمت قصير وقبل أن أفتح فمي بأول حرف في الإجابة؟ عاد الرجل يقول: أنا في حيرة، لقد كنت أحسبه مع الناس لكن قبوله منصبا في إحدى المؤسسات الصحفية القومية أوقعني في حيرة شديدة، وزاد من حيرتي ما سمعته منه في أكثر من محطة فضائية على مدار الشهور الأخيرة، لقد انقلب الرجل الذي طالب ذات يوم بالقصاص بإغراق رجل الأعمال ممدوح إسماعيل صاحب العبارة التي أغرقت أكثر من ألف مصري، وصار بوقا للنظام. ثم استطرد: "والكاتب الآخر الذي كان يتقلب يمينا ويسارا، لكني كنت أحسب أن هذا من باب تمرد المبدعين، حتى منحوه هو الآخر منصبا".
وقلت للرجل: "في العموم فإن كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ولا تزر وازرة وزر أخرى. وفي الخصوص فإن كل كاتب مسؤول عما يكتب ويتخذ من مواقف، ويقبل من مناصب صغيرة أو كبيرة". لكنه عاجلني قائلا: "سأكون صريحا معك، أنا أصبحت أشك في الجميع"، فابتسمت وقلت له يا أخي هناك قاعدة ذهبية تقول: "يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال"، فقال: أريد توضيحا أكثر، فقلت له: لا أريد أن أكلفك أكثر من ذلك، أنت تجري مكالمة دولية، أرسل لي إيميلك، وسأفصّل لك الأمر في رسالة مطولة.
أغلقت الهاتف وجلست حزينا، على بعض منا أساء إلينا جميعا، حين تقلب وتبدل بين عشية وضحاها، وبدا لي الرد على هذا القارئ الكريم غاية في الأهمية، إذ إن الناس إن فقدوا الثقة في قادة الرأي وفيمن يعولون عليهم من الساسة والرموز الاجتماعية والثقافية، استسلموا لضيق العيش وفساده، ورضخوا تحت نير الاستبداد، وفقدوا البوصلة الصحيحة التي تشير إلى الاتجاه الأفضل والأكثر تقدما. كما بدا لي، وللأسف الشديد، أن المتبجحين في الدفاع عن النظام الحاكم أفضل من المنافقين الذين يخدمونه في الخفاء، ويظهرون، إلى حين، عكس ما يبطنون، وتذكرت المقولات العلمية التي تزداد رسوخا في الأكاديميات الغربية الآن من أن الموضوعية في العلوم الإنسانية هي أن يعلن الكاتب في بداية بحثه أو دراسته عن هويته الفكرية وانحيازه السياسي.
ودارت رأسي بما سمعت، واستدعيت كل ما أعرفه عن الذين باعوا عن قصد، والذين سقطوا في منتصف الطريق، وكتبت إلى صاحبنا قائلا: "هناك يا أخي العزيز من يعارض حتى يرفع من ثمن شراء السلطة له. وهناك من يعارض لأنه لم يجد له مكانا في ركاب هذه السلطة ورحابها بعد أن أزاحه أو لفظه الملتفون حولها. وهناك من يعارض لأنه لم يحصل على كل ما كان يتمناه من اقترابه من الحكم. وهناك من يعارض جناحا في السلطة لحساب جناح آخر، ويهاجم رجل أعمال معين لصالح منافسيه في السوق. وهناك من يعارض في سبيل تحصيل شهرة منساقا وراء مبدأ: خالف تعرف. لكن كل هؤلاء لا يحجبون عنا حقيقة ناصعة كشمس ظهيرة صيف تقول بجلاء: هناك دوما في مصر شرفاء كثيرون، عارضوا لأنهم كانوا غاضبين من الفساد الذي استشرى والاستبداد الذي زادت وطأته، ولأنهم حالمون بغد أفضل لوطنهم، ومدركون أن عليهم واجب تبصير الناس إلى ما فيه خير العباد والبلاد، ومؤمنون أن المكان الحقيقي للمثقف هو أمام الأمير يرشده إلى الصالح، وليس خلفه، يبرر له سياساته مهما انحرفت، وسلوكياته مهما اعوجت".
وبعثت الرسالة فجاءني السؤال: كيف نكتشف كاتب السلطة المتخفي؟ واسترجعت كل ما وقر في ذهني من معلومات عن هؤلاء وأجبته: "هناك من لم ينقطع الحبل السري الذي يربطه بأجهزة الأمن وبعض رجال السلطة، حتى لو كتب ما يعتقد بعض المتعجلين أنه ينطوي على معارضة. وهناك من يدخل أهل الحكم على خطه يهاتفونه ويساومونه ويقدمون له الإغراءات فيلهث وراءها أو يتوعدونه فيخاف، وهنا تجد كتاباته بدأت تأخذ طريقها إلى التغير، وتشم من بين سطورها رائحة التواطؤ المتدرج. وهناك من يعمل لحساب أكثر من طرف في وقت واحد، وهذا تكشفه من تناقض كلماته، فتجد مقالا في الشرق وآخر في الغرب، دون اتساق ولا انسجام يتوافر دوما وحتما لمن تنبع أفكارهم من رؤوسهم. ويوجد الكاتب الذي يُفرط في الحديث عن نزاهته واستقامته، وهذا تحذر منه، قياسا على الحكمة المتداولة والمنسوبة إلى أرسطو والتي تقول: "احذر المرأة التي تتحدث كثيرا عن الشرف". ويوجد الكاتب الذي يرسم لنفسه طريقا مع السلطة على المدى الطويل، فيتقرب إليها بقدر بسيط ومدروس، ويضيء لها من آن إلى آخر الضوء الأخضر الذي يقول لها "أنا جاهز وفي الخدمة" فإن برق في عينيها وفهمت ما يرومه والتقطته ذهب إليها بكل كيانه، وإن عميت عن إبصار هذا الضوء الذي لا ينقطع، يكون صاحبنا لم يتوغل في الاسترخاص، ولا تزال بينه وبين القراء جسور عامرة بالثقة حتى ولو كانت ضيقة، فيعود بصمت من حيث أتى.
وبعثت الرسالة فجاءني سؤال آخر: اذكر لي أمثلة؟ وأغمضت عيني فصففت من وجوههم بقدر ما أسعفتني الذاكرة، وابتسمت قليلا، وقمت إلى جهاز الكمبيوتر وكتب إليه مطمئنا: اتبع ما قلته لك بقدر ما وعيت من حيل هؤلاء وطرق تخفيهم، وتابع ما يكتب في الصحف بانتظام، ستكتشفهم بنفسك بعد قليل، وستعرفهم بأسمائهم وسيماهم كما يعرفهم أي قارئ ذكي.
-----------------------------
بقلم: د. عمار علي حسن
(نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك)






