عبر مسرح التمزق العربي الذي تتكسر عليه أحلام الوحدة والنهضة، تطل علينا أشباح التفكيك، فتتحول الجغرافيا إلى ساحات مفتوحة لصراعات بالوكالة، وتتحول العواصم من حاضنات للأمل إلى قاطرات للتفتيت، ففي الجنوب السوداني، حيث تعصف نيران الحرب الأهلية بكل ما تبقى من نسيج وطني، لاتزال أصوات الأسلحة تحمل في دويها صدى التدخلات الإقليمية التي تغذي الصراع عبر دعم ميليشيات تغرد خارج سرب الدولة، وعلى الضفة الأخرى من البحر الأحمر، في اليمن المجروح، يطلُّ المجلس الانتقالي الجنوبي كتجسيد لمشروع انفصالي تُسرع وتيرته قوى دعم خارجية تعيد رسم الخريطة بمنطق التمزق لا التواصل، بينما يعلو صوت الصومال محذراً من نفس لعبة التمزيق، ويطالب بموقف عربي موحد.
وهذا ليس مجرد تشابه عابر في الوقائع، بل هو تعبير عن نمط متكرر وخطير: "أيدي عربية تخريبية" تمارس لعبة تقسيم المصائر، تستخدم فيها أدوات محلية كبيادق على رقعة شطرنج جيوبوليتيكية قاسية، إنها ظاهرة لا تكتفي بضرب استقرار دول الجوار، بل تطعن فكرة التضامن العربي في الصميم، وتستبدل حلم الأمن القومي المشترك بكابوس التفكيك الممنهج، ومن الخرطوم إلى عدن إلى بربرة وهرجيسا، تتعالى أسئلة مصيرية: من الذي يحرك خيوط هذه الدمى؟ ولماذا تتحول بعض العواصم العربية من رموز للقومية إلى قوى للتفكيك؟ وكيف يمكن للأمة أن تواجه هذا الاختراق الذاتي المدمر؟
ووراء كل حركة تخريبية تعبث بمصير الأمم، تكمن محركات عميقة ومعقدة، تشبه إلى حد كبير لعبة شطرنج جيوبوليتيكية تُلعب بأرواح الشعوب وأوطانها كرهان، فسياسات التفكيك هذه لا تولد من فراغ، بل هي نتاج خليط سام من الطموحات المتضاربة والحسابات قصيرة النظر التي تتصارع على جثة النظام العربي الهش.
وفي قلب هذه الظاهرة تكمن رغبة عارمة في إعادة تشكيل المشهد الإقليمي وفق رؤى ضيقة، حيث تُعتبر الدول الكبيرة الإقليمية المستقلة تهديداً وجودياً للنفوذ، وهنا تتحول الاستراتيجية من محاولة التفوق إلى إجبار الآخرين على التدني، فتتم عمليات "تقزيم" الدول المجاورة عبر تمويل ميليشيات وظيفتها الأساسية تفجير الدولة من الداخل، كما في حالة دعم قوات الدعم السريع في السودان، إنها هيمنة تعتمد على مبدأ "الفوضى الخلاقة" التي تضمن تبعية الجميع. ولا تنفصل الاعتبارات الجيوبوليتيكية عن شهوة السيطرة على الممرات الاستراتيجية والموارد الحيوية، فتفكيك الدولة الواحدة يفتح شهية الاستغلال الاقتصادي عبر اتفاقيات مجحفة مع كيانات هشة ومنقسمة، والسيطرة على باب المندب، أو منابع النيل، أو الثروات الباطنية تتحول إلى غنيمة سهلة المنال في ظل غياب الدولة المركزية القوية، إنها معادلة وحشية: كلما زادت الفوضى، زادت أرباح الناهبين.
وتتحول الساحات العربية إلى ميدان لتصفية حسابات أيديولوجية، حيث يتم تصدير الصراعات المذهبية والرؤى السياسية عبر ميليشيات مسلحة، وبعض الفاعلين الإقليميين يرون في دعم الجماعات الانفصالية أو المسلحة وسيلة لخلق "دول عميلة" تتبنى مشروعهم الفكري أو الطائفي، أو على الأقل تشكل حاجزاً أمام توسع خصومهم، إنها حروب باردة تُخاض بدماء العرب الساخنة. وأخطر الدوافع هو تحويل العجز إلى سياسة، فعندما تفشل بعض النخب في خوض سباق التنمية والبناء الحضاري، وتقف عاجزة عن تقديم نموذج جاذب، تتحول إلى خيار التخريب كبديل، إنها عقلية "الحصان الأسود" التي تفضل إسقاط الجميع على تحمل مسؤولية النهوض بالجميع، وهذا المنطق المأساوي يجعل من التدمير وسيلة للبقاء، ومن الفوضى أداة للنفوذ. وهذه المحركات المتشابكة تخلق عاصفة كاملة من التدمير الذاتي، حيث تتحول العواصم العربية من مراكز للإشعاع الحضاري إلى ورش لتفكيك الجيران، في حلقة مفرغة من الانتقام الجيوبوليتيكي التي لا يخرج منها منتصر، بل فقط ناجون من حطام أوطان لم تعد تعرف معنى للاستقرار أو السيادة.
تشريح آلة التفكيك العابرة للحدود:
إن إستراتيجية "التخريب" كأداة سياسية خارجية ليست وليدة اليوم، بل هي شكل من أشكال إدارة الصراع التاريخي الذي يجري بمستوى أقل من الحرب الشاملة، فهي تشمل إجراءات عدائية وموجهة تتخذها دولة داخل دولة أخرى لإضعافها أو تغيير سياساتها، وفي السياق العربي المعاصر، تحولت هذه الآلية إلى فن مُتقَن يعمل عبر طبقات متداخلة ومتكاملة، تبدأ بالناعمة وتتصاعد حتى العسكرية، لتحقيق "التدمير الخلاق" للدول المستهدفة، ولقد برعت القوى التخريبية في تحويل نقاط الضعف الداخلية إلى أدوات قوة خارجية، وفق مخطط يعمل على المستويين العلني والسري، العنيف وغير العنيف .
وفي مسرح التخريب الاستراتيجي، يتحول التمويل إلى سلاح ذي حدين: ناعم المظهر لكنه قاتل المفعول، يبدأ بتمهيد الطريق للفوضى عبر حقن الأموال في شرايين المجتمعات الهشة، وهنا لا تقتصر اللعبة على مجرد تدفق الأموال عبر قنوات تجارية أو تحويلات تلبس عباءة الشرعية، بل تتعداها إلى هندسة اجتماعية واقتصادية معقدة، حيث يتم استهداف النخب والشخصيات المؤثرة لشراء ولائها وربط مصالحها بأجندات خارجية، مما يخلق شبكات خفية من التبعية والولاء المنقوص، وبالتوازي يتم ضخ الأموال لتمويل شبكات اقتصادية موازية، لاسيما في المناطق الحدودية والمهمشة، لتقويض سلطة الدولة المركزية وإحياء تحالفات جديدة قائمة على "اقتصاد الاحتيال" الذي يزدهر في ظل انعدام القانون، ولا تكتمل هذه الصورة دون حرب الإعلام والدعاية، حيث يتم تمويل حملات ممنهجة تستغل المظالم الحقيقية وتضخمها لتتحول إلى قنابل موقوتة، تعمل على إحداث شرخ عميق بين المواطن ودولته، وتسريع عملية تآكل العقد الاجتماعي، لتصبح الأزمة الاجتماعية وقوداً مستمراً لمشروع التفكيك طويل الأمد.
وفي استراتيجية التخريب المعاصرة، تتحول الانقسامات المجتمعية والهويات الفرعية من أعراض لأزمات داخلية إلى مخزون استراتيجي جاهز للتفجير، حيث تمارس القوى الخارجية عملية "تنقيب" منهجي عن الشقوق العرقية والطائفية والقبلية، كما جرى في العراق عبر تعميق المحاصصة، أو كما يتجلى في تأجيج النزاع في دارفور وجنوب اليمن، ولا يتوقف الأمر عند حدود الاكتشاف، بل يتعداه إلى تحويل هذه الهويات إلى مشاريع سياسية مسلحة، تُغذى بالدعم المالي واللوجستي والاعتراف السياسي، لتحويل الحوار المجتمعي إلى صراع وجودي تذوب فيه إمكانية الحلول الوسط، وتتم هذه العملية الخطيرة عبر آلية "الوكالة"، حيث تُستخدم الفصائل المحلية كأدوات لتنفيذ الأجندات الخارجية، مما يمنح الدول الداعمة غطاء "الإنكار المعقول" ويجنبها كلفة المواجهة المباشرة،
في علاقة خطرة سرعان ما تتحول إلى شريك متوحش قد تنقلب أهدافه ومطامحه الخاصة لتصبح تهديداً جديداً حتى لأصحاب المشروع الأصلي. وفي قلب آلة التفكيك، يبرز الذراع المسلح كأقوى أدواتها، حيث يتحول الاحتجاج المحلي إلى حرب وجودية تُدار من الخارج، عبر عملية منهجية تبدأ بإمداد الجماعات بالأسلحة المتطورة والذخائر والتدريب المتخصص وحتى الطائرات المسيرة والدعم الاستخباراتي الحيوي، كما في حالة دعم قوات الدعم السريع في السودان، مما يحولها من تكتلات هامشية إلى جيوش موازية قادرة على تحدي هيبة الدولة وسلطتها، ولا يتوقف المشهد عند حد التسليح، بل يتعداه إلى عملية "أسطرة" منهجية لهذه الميليشيات، حيث يتم منحها الشرعية السياسية والغطاء القانوني والموارد التي تحولها من جماعات خارجة على القانون إلى فاعلين أساسيين في المعادلة الأمنية بل وفي تشكيل "دولة عميقة" موازية، تماماً كما جرى مع قوات الدعم السريع التي حصلت على شرعية رسمية عام 2013 قبل أن تنقلب إلى طرف في حرب أهلية طاحنة، وتتوج هذه الاستراتيجية ببناء شبكات اقتصادية موازية وسريعة النمو تحت سيطرة الميليشيات، تضمن لها الاستقلال المالي والاستدامة العملياتية، كما يظهر جلياً في السودان حيث تسيطر قوات الدعم السريع على قطاع تعدين الذهب الحيوي، بينما يحتكر الجيش النظامي قطاعات الاتصالات والبنوك والزراعة، محولين الصراع من نزاع سياسي إلى حرب اقتصادية شاملة على موارد البلاد وثرواتها، في معادلة تذيب فيها الحدود بين السياسة والاقتصاد، وبين السلاح والسوق، لصالح إدامة الصراع وتعميق التفتيت.
تحالفات مصيرية
ويتعمق نسيج التخريب ليصل إلى طبقات أكثر ظلمة مع نشوء تحالفات مصيرية بين مشاريع التفكيك السياسي وشبكات الجريمة المنظمة العابرة للحدود، حيث يخلق فراغ سلطة الدولة بيئة خصبة لتلاقي المصالح بينهما، فتتحالف الميليشيات مع عصابات التهريب العملاقة - سواء في مجال تهريب البشر ذي الأرباح الفلكية، أو السلع والمحروقات - لتحصل على شريان حيوي يوفر لها التمويل السريع واللوجستيات المعقدة وقنوات اتصال محصنة عبر الحدود المفتوحة، وينشأ في هذا المستنقع ظاهرة هجينة خطيرة هي "العصابات الإسلاموية" التي تزايد بين خطاب أيديولوجي متطرف وممارسات إجرامية منظمة، مستغلة السخط الاجتماعي في المناطق المهمشة لتجنيد العناصر وترسيخ وجودها، ولا تكتمل الصورة إلا باستهداف هذه الشبكات للثروات الوطنية الحيوية، حيث تُحول خطوط أنابيب النفط والغاز والموانئ الاستراتيجية إلى نقاط اختناق للابتزاز، ليس فقط لضخ الأموال، بل كأداة ممنهجة لإضعاف اقتصاد الدولة وإظهار عجزها المطلق عن حماية مقوماتها الأساسية، مما يحول الجريمة من نشاط هامشي إلى رافعة استراتيجية في عملية التفكيك الشامل.
ويتوج مشروع التخريب بمرحلته السياسية الحاسمة، حيث تتحول المكاسب الميدانية إلى أمر واقع دولي عبر أدوات دبلوماسية وإعلامية متطورة، فبعد إضعاف الدولة مركزياً، يبدأ منح الاعتراف الدبلوماسي - جزئياً كان أم كاملاً - للكيانات الانفصالية أو الميليشيات المسلحة، عبر فتح مكاتب تمثيلية وضمها إلى المحافل والمفاوضات الدولية كأطراف شرعية، في عملية منهجية لهدر شرعية الدولة الأم وإضفاء الصبغة القانونية على واقع التمزق، وتتزامن هذه الخطوة مع حملات علاقات عامة ودعاية دولية مكثفة تعمل على تبييض صورة الوكلاء الانفصاليين وتشويه صورة الحكومات المركزية، مستخدمة سرديات جذابة مثل "الديمقراطية" و "حق تقرير المصير" كغطاء أخلاقي يلمع الأجندات التقسيمية ويكسبها تعاطفاً عالمياً، ولا تكتمل الصورة دون استغلال آليات المؤسسات الدولية لفرض حلول سياسية، غالباً ما تُقدم تحت شعارات براقة مثل "الفيدرالية" أو "اللامركزية"، والتي تتحول في ظل وهن الدولة إلى هياكل قانونية تكرس الانقسام وتشكل مقدمة محتملة للانفصال التام، مما يطبع واقع التفكيك بختم الشرعية النهائي الذي يصعب انتزاعه.
وتشكل آليات التخريب طيفاً متكاملاً ومتصاعداً من الأدوات، يبدأ من الحملات الإعلامية والدعائية العلنية وتزييف الوعي، ويمر عبر القنوات السرية كالتمويل المشبوه وشراء الذمم، ليتصاعد إلى العمليات الإرهابية والاغتيالات في الظل، وينتهي بالمواجهة المسلحة المباشرة عبر دعم التمرد ونشر القوات شبه العسكرية، وهذه الحلقات ليست منفصلة، بل هي مترابطة عضوياً في سلسلة تدمير واحدة، تبدأ باستغلال المظالم الداخلية لتآكل النسيج الاجتماعي، ثم تضخ الوقود المالي والسلاح عبر الشقوق المجتمعية لتتحول الجمرة إلى حريق صراع مسلح، وتنتهي أخيراً بإضفاء الشرعية الدبلوماسية والدولية على نتائج المعارك الميدانية، إنها لعبة جيوبوليتيكية خطيرة تُدار من خلف الكواليس، يدفع ثمنها المواطن العربي بدمائه وتماسك مجتمعه، بينما تتراكم الثروات والسلطة في أيدي تحالفات هجينة من النخب المحلية المتواطئة وجنرالات الحرب وأرباب المصالح الخارجية.
وتُشكِّل عوامل الاستجابة الداخلية التربة الخصبة التي تجعل من المخططات التخريبية الخارجية ممكنة التحقيق، فضعف الدولة وهشاشة مؤسساتها وفسادها الذي يحرم المواطن من أبسط حقوقه في الأمن والخدمات والعدالة الاجتماعية، يدفع الأفراد يائسين نحو البحث عن أي بديل ولو كان مشبوهاً ويخدم أجندة تفكيكية، بينما تتحول الانقسامات الهوياتية العميقة - العرقية والطائفية والقبلية - من تنوع ثري إلى خطوط تماس جاهزة للاشتعال، يُسهل استغلالها وتحويلها إلى صراعات دموية، وتتفاعل هذه العناصر مع الأزمات الاقتصادية الخانقة والبطالة المستشرية بين الشباب، لتحوِّل الإحباط والحرمان إلى عبوة ناسفة، حيث يصبح الانضمام إلى المليشيات مقابل المال والغذاء خياراً قائماً بغض النظر عن المبادئ أو المشروع السياسي، وفي قلب هذه العاصفة، يبرز غياب المشروع الوطني الجامع القادر على صهر هذه المكونات في بوتقة هوية واحدة ورؤية مستقبلية مشتركة، ليترك الساحة فارغة للمشاريع الضيقة والجهوية التي تجد في الدعم الخارجي منفذاً لتحقيق أحلامها الانعزالية، مكتسبة شرعية من واقع الإخفاق الداخلي أكثر مما تستمده من قوة خطابها.
من المستفيد؟
في سؤال "لمن تؤول المصلحة النهائية" تكمن المفارقة الأكثر قتامة في مشهد التخريب العربي، ففي حين يبدو المستفيد المباشر واضحاً - النخب المحلية المتواطئة التي تبيع الولاء، والفصائل المسلحة التي تتحول إلى إقطاعيات، والدول الداعمة التي توسع نفوذها مؤقتاً - إلا أن الحصيلة الإجمالية تمثل خسارة استراتيجية للجميع، فالدولة الأم تفقد سيادتها وتغرق في دوامة لا تنتهي من العنف والتخلف، وحتى الدول الداعمة تجد نفسها في النهاية محاصرة بجوار كيانات فاشلة غير مستقرة، تصدر إليها الإرهاب والجريمة وأزمات الهجرة غير الشرعية، بينما يتفكك النسيج الاجتماعي إلى هوات سحيقة من الكراهية والدم، تُدفن معها أحلام المصالحة والتعايش لقرون قادمة، ويسقط مع هذا المشهد مفهوم الأمن القومي العربي كله، ليصبح التضامن شعاراً أجوف وتتحول المنطقة إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات بين الأشقاء، مما يفسح المجال للتدخلات الدولية الكبرى، ولكن الضحايا الحقيقيين، الذين يدفعون الثمن من دمائهم وكرامتهم في دارفور وغيرها، هم الشعوب التي تحولت مآسيها إلى عملة في صفقات لا تعرف إلا لغة المصالح الضيقة والخراب الشامل.
والسؤال المصيري الذي يخيم على حاضر الأمة العربية ومستقبلها، ليس عما إذا كانت خرائط التمزق في السودان واليمن والصومال جاهزة لجفاف الحبر، بل عن إرادتنا الجماعية في تمزيق هذه الخرائط ذاتها قبل أن تجف، ما نراه اليوم ليس قدراً محتوماً منحوتاً في صخرة التاريخ، بل هو محصلة لخيارات سياسية قصيرة النظر، لعب على حافة الهاوية يمكن أن يتحول إلى انهيار شامل تنجرف فيه أوطان عربية أخرى، واحدة تلو الأخرى، إلى نفس دوامة التفكك، فالخطر الحقيقي يكمن في تحويل هذا النموذج "التفكيكي" إلى سلعة قابلة للتصدير عبر الحدود، لتشعل نيران الفتنة حيثما وجدت شرخاً في جدار الأمة، ولذلك فإن اللحظة الحالية ليست لحظة رثاء، بل هي لحظة اختبار حاسم تتطلب وقفة عربية تاريخية تتحول فيها الدروس المأساوية إلى إرادة حديدية للعمل.
وإن أي استجابة حقيقية يجب أن تُبنى على أسس متينة: أولها، إشعال شرارة إرادة عربية جماعية تتجاوز الخطاب إلى الفعل، متمسكة بقدسية الحدود وسيادة الدول كخط أحمر غير قابل للعبث، مستلهمة المواقف الواضحة التي رفضت التقسيم، ثانيها تحويل هذه الإرادة إلى دعم عملي لا لبس فيه لمؤسسات الدولة الشرعية، ليس فقط بالكلمات، بل بمساعدات تنموية وأمنية حقيقية تُعيد بناء العقد الاجتماعي وتُقوي مناعة المجتمع في وجه وباء التفتيت، ولا غنى عن حوار وطني شامل وجريء في كل دولة، يكون بمثابة عملية جراحية لاستئصال أورام التفرقة، يحول التنوع من سلاح للتمزيق إلى مصدر غير نافذ للقوة والثراء، ولا يمكن أن تكتمل هذه المعادلة دون السعي الجاد لمساءلة دولية تحاسب كل من يدير أو يمول أو يسَلح جماعات تغتال المستقبل وتجترح جرائم الحرب.
وفي النهاية، القضية تتجاوز كشف هويات "الأيدي التخريبية"، رغم أهميته، إلى اختبار حقيقي لإرادة الحياة في جسد هذه الأمة، فالتضامن العربي الحقيقي لا يبدأ بخطب في قمم، بل بوقف طلقات الخيانة الموجهة إلى صدور الأشقاء، ومستقبل اليمن والسودان والصومال ليس شأناً داخلياً فحسب، بل هو مقياس لكرامتنا جميعاً ونافذة نطل منها على مصائرنا، فإما أن نتعلم الدرس بسرعة ونرفع سقف مسؤوليتنا لحماية ما تبقى من كياننا المشترك، أو نستسلم لسيناريو الكارثة الذي سيطال كل بيت عربي، حيث لن ينجو أحد من عاصفة الحقد والدمار، والخيار بين الوحدة والنسيان، بين البناء والردم، وبين أن نكون أمة قادرة على حماية أبنائها، أو مجرد أرقام في سجلات التاريخ التي تروي حكايا أمم لم تعرف كيف تحمي نفسها من ذاتها..
--------------------------------
بقلم: أحمد حمدي درويش






