أُقيم في سفارة الجمهورية التركية بالقاهرة حفل تأبين لإحياء ذكرى الشاعر الوطني التركي ومؤلف «نشيد الاستقلال» محمد عاكف أرصوي، وذلك بمناسبة الذكرى التاسعة والثمانين لرحيله، في فعالية ثقافية أكدت عمق الروابط التاريخية والوجدانية بين مصر وتركيا، والدور الذي لعبه أرصوي في ترسيخ هذه الصلات.
وشهد الحفل حضورًا لافتًا تجاوز المئة ضيف، من بينهم ممثلون عن الأوساط الثقافية والفنية المصرية، وطلاب معهد يونس إمره، إلى جانب عدد من الصحفيين والإعلاميين.
وقدّم معهد يونس إمره عرضًا شاملًا تناول السيرة الذاتية لمحمد عاكف أرصوي، وعالمه الفكري، وأبرز أعماله الأدبية، فضلًا عن السنوات التي قضاها في مصر، والتي شكّلت محطة مهمة في مسيرته الإنسانية والفكرية. وتضمن البرنامج إلقاء النشيد الوطني التركي، وقصيدة «إلى شهداء جناق قلعة»، باللغتين التركية والعربية.
ويُعد محمد عاكف أرصوي من الشخصيات التاريخية التي تركت أثرًا بالغًا في الوجدان التركي، كما أسهم حضوره الطويل في مصر في بناء جسور ثقافية وإنسانية متينة بين الشعبين.
فقد أمضى نحو عشر سنوات من حياته في مصر، أقام خلالها في مدينة حلوان، ودرّس اللغة والأدب التركيين في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وأقام علاقات وثيقة مع نخبة من المثقفين والفنانين والسياسيين المصريين.
وخلال تنقلاته بين حلوان والقاهرة، اعتاد الجلوس في مقهى الفيشاوي بمنطقة خان الخليلي، ولا يزال المنزل الذي أقام فيه بحلوان قائمًا حتى اليوم.
كما زار أسوان والأقصر، وخلّد هاتين المدينتين في عدد من قصائده الشعرية. وكان من أقرب أصدقائه في مصر عباس حليم باشا، حفيد محمد علي باشا ووزير الأشغال العامة السابق في الدولة العثمانية.
وفي كلمته خلال الحفل، أكد سفير تركيا لدى القاهرة، صالح موطلو شن، أن الكفاح الوطني التركي لم يكن كفاحًا مسلحًا فحسب، بل كان انتصارًا للإيمان والقوة الروحية، مشيرًا إلى أن النشيد الوطني الذي كتبه محمد عاكف أرصوي يُجسّد هذه الروح بأقوى صورها.
وأضاف السفير التركي أن أرصوي حافظ على روح الوحدة والمقاومة لدى الشعب التركي من خلال تجواله في الأناضول خلال سنوات الكفاح الوطني، وإلقائه الخطب في المساجد، معتبرًا أن قصيدته «إلى شهداء جناق قلعة» تُعد من أبرز أعماله، لما تحمله من رمزية للنضال الملحمي الذي خاضته الأمة التركية خلال الحرب العالمية الأولى.
وأوضح أن «نشيد الاستقلال» لا يمثل مجرد عمل أدبي، بل يُجسّد نهضة الأمة التركية وعودتها القوية إلى مسرح التاريخ، مؤكدًا أن إرث محمد عاكف أرصوي لا يزال ينير مستقبل الأمة حتى اليوم.
واختتم كلمته بتوجيه الشكر لمصر على استضافتها واحتضانها للشاعر الكبير خلال سنواته الأخيرة.
وُلد محمد عاكف أرصوي في العشرين من ديسمبر عام 1873 بمدينة إسطنبول، ونشأ في أسرة علمية؛ إذ كان والده، الشيخ محمد طاهر أفندي، من مدرّسي مدرسة الفاتح، وكان له دور محوري في توجيه ابنه نحو العلوم اللغوية والدينية منذ الصغر.
تعلّم أرصوي العربية والفارسية والفرنسية في سن مبكرة، وكان يعبّر عن مكانة والده في تكوينه العلمي بقوله: «كان أبي وأستاذي في آنٍ واحد، وكل ما أعلمه تعلمته منه».
ورغم دراسته الطب البيطري، ظل شغفه بالأدب حاضرًا بقوة، ورافقه طوال سنوات دراسته وعمله في مجال التعليم.
وتتجلى مكانة محمد عاكف أرصوي لدى الأمة التركية في كونه شاعرًا جسّد الوجدان الوطني بصدق، إذ شكّلت قصائده مصدر إلهام ومعنويات خلال فترات النضال والكفاح، وأسهمت في تعزيز روح الوحدة والصمود الاجتماعي.
ويُعد «نشيد الاستقلال» أشهر أعماله، وقد اعتمده البرلمان التركي في 12 مارس 1921 نشيدًا وطنيًا، ليغدو رمزًا لصراع الأمة التركية من أجل الحرية والاستقلال، وتعبيرًا أدبيًا عن الإيمان الراسخ والعزيمة الجماعية.
ومنذ عام 1923، بدأ محمد عاكف أرصوي قضاء فصول الشتاء في مصر، قبل أن يستقر فيها إقامة شبه دائمة في سنواته الأخيرة.
وخلال تلك المرحلة، انصبّ اهتمامه، إلى جانب مشروع ترجمة القرآن الكريم، على تدريس اللغة والأدب التركيين بجامعة القاهرة. وفي أواخر عام 1933، نشر في القاهرة كتابه السابع والأخير من سلسلة «صفحات» تحت عنوان «الظلال»،
وتُعد سنوات إقامته في مصر مرحلة مفصلية في مسيرته الأكاديمية والفكرية والأدبية.
وخلال حياته، تُرجمت بعض قصائد أرصوي إلى اللغة العربية؛ ففي عام 1932 نشرت مجلة «المعرفة» في مصر قصيدتي «نشيد الاستقلال» و«البلبل» مترجمتين إلى العربية، وتلتهما قصيدتا «إلى شهداء تشاناق قلعة» و«في الأقصر»، إلى جانب أعمال أخرى من بينها «آصم» (Âsım).
ولذلك، لا يُنظر إلى محمد عاكف أرصوي بوصفه شاعرًا فحسب، بل باعتباره «الشاعر الوطني» الذي عبّر بعمق عن القيم الأخلاقية والوطنية للأمة التركية، وترك إرثًا إنسانيًا وثقافيًا لا يزال حاضرًا في الذاكرة التركية والمصرية على السواء.













