في زمنٍ تُديره الخوارزميات، وتُقاس فيه المواقف بعدد المشاهدات لا بثقلها الأخلاقي والسياسي، لم تعد الوطنية معنىً مستقرًا أو بديهيًا كما كانت، بل تحوّلت إلى مفهومٍ ملتبس، يُساء فهمه، ويُعاد تعريفه وفق منطق “الترند” لا وفق ميزان المصلحة العامة.
لم يعد السؤال ماذا تقول ولماذا؟ بل كم حصدت؟
ولم يعد المعيار ماذا يخدم الوطن؟ بل ما الذي يصعد سريعًا إلى الشاشات.
في هذا المناخ، أصبح الانتماء إلى فصيل وطني بهدف خدمة الأجندة الوطنية محلّ شك لا محل تقدير، يُقرأ أحيانًا بوصفه سعيًا لمصلحة شخصية، أو بحثًا عن مكسب، في وقتٍ تُشيطن فيه النوايا، وتُختزل السياسة في حسابات الربح والخسارة، لا في منطق الالتزام والمسؤولية.
يُسأل المنخرط في العمل الوطني. “كم يدفعون لك؟ هل تتقاضى راتبًا؟”، وحين يجيب بأنه لا يتاجر بالدم ولا يحوّل القضية إلى مشروع ربح، يُتهم بالجنون أو السذاجة.
وفي الاتجاه المعاكس، يتحول النجاح أو الاستقرار أو الامتلاك، تلقائيًا، إلى تهمة جاهزة بالفساد.
في الحالتين، أنت متهم
إن لم تتربح فأنت مشكوك في وعيك،
وإن تربحت فأنت مشكوك في وطنيتك.
هذه المفارقة ليست ظاهرة اجتماعية عابرة، بل تعبير صارخ عن أزمة وعي سياسي وأخلاقي، وعن انزلاق خطير في فهم معنى الوطنية ووظيفتها. فالوطنية ليست ضجيجًا، ولا استعراضًا، ولا سباقًا محمومًا على المنصات.
الوطنية مسؤولية، والتزام، وقدرة على التمييز بين النقد والبناء، وبين المعارضة والهدم.
أن تكون معارضًا وطنيًا لا يعني أن تتحول إلى معول هدم لمؤسسات الدولة، ولا أن تمارس النقد بوصفه غاية في ذاته، أو أن تجعل من الاختلاف أداة للتشكيك والتخوين.
المعارضة الوطنية الحقيقية تنطلق من حب الوطن، وتسعى إلى تصويب السياسات لا تقويض الدولة، تنتقد بصدق، وتقترح بدائل، وتحترم المؤسسات، وتضع مصلحة المواطن فوق الحسابات الفئوية والمزايدات السياسية، مع إدراك عميق لحساسية اللحظة ورفض صريح لتدويل الخلافات الداخلية.
بهذا المعنى، لا تكون المعارضة ترفًا سياسيًا، بل ضرورة لبناء دولة قوية وقادرة على تصحيح مسارها. فالمؤيد والمعارض ليسا نقيضين، بل شريكين في مشروع وطني واحد
هذا يساند السياسات حين يراها في مصلحة الوطن، وذاك يختلف معها حين يرى خللًا أو خطرًا، لكن كليهما ينطلق من هدف واحد هو خدمة الوطن والمواطن، لا تسجيل النقاط ولا حصد المتابعين.
وتتضاعف خطورة الخلط بين الوطنية والاستعراض في الظرف الوطني والإقليمي الدقيق الذي تمر به قضيتنا الفلسطينية، في ظل عدوان متواصل، وسياسات احتلالية ممنهجة تستهدف الوجود والحقوق، وحملات تضليل وتشويه لا تخدم إلا إضعاف الجبهة الداخلية وتشتيت البوصلة الوطنية.
في مثل هذه اللحظات، يصبح الخطاب التحريضي، مهما تلون بشعارات براقة، خطرًا لا يقل أثره عن العدوان ذاته.
إن العمل على ترميم لحمة الصف الوطني لم يعد خيارًا سياسيًا، بل واجبًا تاريخيًا. والوفاء لتضحيات شهدائنا وأسرانا وجرحانا وعائلاتهم الصامدة لا يكون بالمزايدة ولا بالاستثمار السياسي، بل بالحفاظ على وحدة الموقف، وصون المؤسسات الوطنية الشرعية، وتعزيز صمود المجتمع في مواجهة محاولات التفكيك والإنهاك.
حماية النظام السياسي الفلسطيني، وضمان استمرارية مؤسسات الدولة، تتطلب وعيًا جماعيًا بخطورة الانسياق وراء خطاب التشهير والتحريض، والتمسك ببوصلة وطنية واضحة، تدرك أن الخلاف مشروع، بل صحي، لكن العبث بوحدة الصف خطيئة وطنية لا تُغتفر.
في زمن الترند، قد يبدو الصوت الهادئ أقل بريقًا، لكن التاريخ لا يُكتب بالضجيج، بل بالمواقف.
وتبقى الوطنية، مهما تبدلت الأزمنة، فعلًا صامتًا في ظاهره… عميق الأثر في نتائجه.
---------------------------
بقلم: حاتم نظمي






