الحلف الغربي، المكوَّن من الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل، قد يختلف أحيانًا في التفاصيل، لكنه يتوحد دائمًا عندما تتعلق الأمور بمصالحه الاستراتيجية الكبرى، وهي مصالح لا تقبل الخلاف أو الجدل. في المرحلة الحالية، تتمثل هذه المصالح في تأمين مسارات جديدة لنقل الغاز إلى أوروبا، خاصة من أذربيجان ومناطق الأكراد في شمالي سوريا والعراق، إضافة إلى إسرائيل، مرورًا بقبرص ومصر، بهدف تقليل اعتماد أوروبا على الغاز الروسي في ظل تصاعد التوتر مع موسكو.
ضمن هذا الإطار، يتحرك الحلف الغربي لتقليص الدور التركي في شرق المتوسط، من خلال دعم تحالف يوناني- قبرصي - إسرائيلي، وهو ما يُنظر إليه في أنقرة باعتباره محاولة لتطويقها وإبعادها عن مشاريع الطاقة الكبرى. هذا الأسلوب ليس جديدًا، إذ سبق أن واجه الغرب تحالفات إقليمية رآها مهدِّدة لمصالحه، وسعى لإضعافها بوسائل سياسية وأمنية متعددة.
التوتر ازداد في الفترة الأخيرة مع تصاعد لهجة الخطاب الصهيوني، حيث وجّه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تحذيرات مباشرة لإيران وتركيا، مؤكدًا أن بلاده تراقب التحركات الإيرانية ولن تسمح بتحولها إلى تهديد أمني، ما يعكس استعدادًا إسرائيليًا لأي تصعيد محتمل. كما شدد في الوقت نفسه على رفض توسيع النفوذ التركي في سوريا أو غزة أو قبرص، وهو ما يفتح الباب أمام تساؤلات حول مستقبل العلاقة بين أنقرة وطهران، وكيف يمكن للطرفين التعامل مع هذه التهديدات.
تركيا، التي تحاول دائمًا الحفاظ على توازن علاقاتها بين الشرق والغرب، وجدت نفسها أقرب إلى إيران في الآونة الأخيرة، خاصة بعد شعورها بأن إسرائيل والغرب لم يراعوا مصالحها في سوريا وشرق المتوسط. لكن المشهد اليوم أكثر تعقيدًا، فمع اقتراب احتمال مواجهة عسكرية مع إيران، تتزايد الضغوط الغربية على أنقرة، وتُدفع نحو خيارين صعبين: إما القبول بخروج مسارات الغاز من شرق المتوسط عن سيطرتها وتقليص نفوذها الإقليمي، أو الدخول في مرحلة تصعيد سياسي وربما عسكري متزامن مع أي مواجهة ضد إيران.
السبب الرئيسي لتحجيم تركيا يعود إلى موقعها الجغرافي الحساس، فهي تسيطر على شمال قبرص وتمتلك أطول ساحل على شرق المتوسط، ما يمنحها قدرة كبيرة على التأثير في أي مشروع طاقة في المنطقة من خلال فرض شروطها. ولهذا، يفضّل الغرب تطويقها عبر ساحات نفوذها بدل المواجهة المباشرة.
يظهر ذلك في عدة مناطق؛ ففي اليمن، يُلاحظ الدعم الغربي للمجلس الإنتقالي الجنوبي على حساب القوي الموالية لتركيا بجنوب اليمن وبخاصة في منطقتي حضرموت والمَهْرَة. وفي السودان، يجري إضعاف الحكومة المركزية التي تحتفظ بعلاقات مع أنقرة لحساب ميليشيات الدعم السريع. أما في ليبيا وهي الحلقة الأكثر تعقيداً، فوجود حكومة موالية لتركيا في الغرب الليبي يُعد عائقًا أمام مشاريع الغاز المنافسة علي شط المتوسط المقابل لليبيا وتحديداً في قبرص، ولذلك جري تعزيز قدرات المشير خليفة حفتر العسكرية شرقاً باتفاقية عسكرية مع باكستان لتحجيم الدور التركي ليبياً. وفي سوريا: فالضربات الإسرائيلية علي العشائر السورية القريبة والموالية لتركيا بجنوب سوريا يهدف إلي منع تركيا بالتحكم في مسار الغاز الممتد من شمال شرق سوريا عبر الحسكة والرقة وريف دير الزور ، وصولاً إلي الجنوب السوري بدرعا والسويداء والقنيطرة وريف دمشق الجنوبي، تلك المنطقة المحددة جغرافياً بما يعُرف "بممر داوود". أما في غزة، فهناك محاولات لإقصاء الدورين التركي والإيراني من أي ترتيبات مستقبلية، سواء سياسية أو أمنية.
تتابع هذه التطورات يشير إلى أن تركيا تواجه عملية ضغط متزامنة تهدف إلى تقليص دورها الإقليمي. وفي المستقبل، تبدو أمام خيارين: إما قبول خسائر إقليمية وإعادة ترتيب أوضاعها، أو إعادة النظر في تحالفها مع الغرب والتوجه شرقًا نحو تقارب أكبر مع روسيا وإيران، رغم ما يحمله هذا الخيار من مخاطر وتعقيدات.
لكن، هل ستوافق روسيا علي تحالف تركي؟!، بعدما أضرت تركيا بمصالحها حين وقعت علي اتفاقية مع أذربيجان لتوصيل الغاز لأوروبا في 14مايو 2024، وحين سمحت بمرور السفن الحربية الأوكرانية للبحر الأسود عبر مضيق البسفور لشن هجمات ضد أهداف روسية.
أي طريق ستسلكه أنقرة، سيكشفه المشهد الإقليمي في وقت قريب.
---------------------------------------
بقلم: د. أحمد عبد العزيز بكير
* أستاذ جامعي في كلية العلوم






