30 - 12 - 2025

انتباه | نداء إلى الماركسيين

انتباه | نداء إلى الماركسيين

لماذا يحرص بعض الماركسيين ومعهم كثيرٌ من الليبراليين على تذكير الناصريين، الذين يشتركون معًا اليوم في رفض حكم الفرد والسعي إلى التوافق السياسي، بأهمية بناء دولة المؤسسات وإنهاء الاستبداد، وكأن هذه المبادئ محل خلاف أو موضع شك؟ 

لماذا يُصرّون، في كل مرة يتحدث فيها الناصريون عن تجاوز حكم الفرد وبناء دولة حديثة قائمة على المؤسسات، على استدعاء عبد الناصر وتجربة يوليو بوصفهما نقيضين لهذه القيم، وكأن ما قبل يوليو كان واحة ديمقراطية مكتملة ودولة مؤسسات حقيقية، في تجاهل صارخ لتعقيدات التاريخ وحقائقه؟ 

لماذا يُعاد إذكاء هذا الخلاف التاريخي الآن، في لحظة نادرة يجتمع فيها الفرقاء، نظريًا وعمليًا، على هدف واحد: الديمقراطية، ودولة المؤسسات، وإنهاء حكم الفرد؟

هذا النداء لا يُكتب من موقع الخصومة، بل من موقع القلق المشترك. 

القلق على وطن تتآكله الفردية السياسية، وتُدار شؤونه بمنطق الأمر الواقع، ويُختزل فيه المجتمع والدولة في شخص، أو دائرة ضيقة، أو سلطة بلا رقابة. وهي مخاوف لطالما رفعها الناصريون وقدموا في سبيلها تضحيات حقيقية، ولا يمكن إنكار هذا التاريخ أو التقليل منه.

ما يستدعي التوقف هو هذا الاستخدام الانتقائي للتاريخ، حين يتحول من أداة للفهم إلى وسيلة للإقصاء، ومن نقد للتجربة إلى نزع للأهلية السياسية. فالناصريون حين يتحدثون اليوم عن دولة المؤسسات لا يطالبون باستعادة دولة يوليو، ولا يبررون مركزية السلطة، ولا ينكرون ما شاب تلك التجربة من غياب التعدد وخلل العلاقة بين الزعيم والمؤسسة. 

على العكس، كثير منهم ينطلق من نقد تلك التجربة (لا نقضها) بوصفه شرطًا لتجاوزها، لا ذريعة للارتهان لها.

غير أن الإصرار على تذكير الناصري، في كل نقاش حول الديمقراطية، بأن عبد الناصر لم يكن ديمقراطيًا، يطرح سؤالًا مشروعًا: لماذا لا يُطبَّق هذا المنطق على الجميع؟ لماذا لا يُستدعى ستالين، وتجربة الاتحاد السوفيتي، ودولة الحزب الواحد، كلما تحدث ماركسي عن الحرية السياسية ودولة القانون؟ ، لماذا يُسمح بقطيعة صامتة مع التجربة الستالينية، بينما يُطلب من الناصري اعتذار أبدي لا يسقط بمرور الزمن؟

إن التجربة السوفيتية، كما تعلمون جيدًا، لم تكن هامشًا عابرًا في تاريخ الماركسية، بل كانت مركزها السياسي والرمزي لعقود طويلة، ونظامًا أُدير بالحديد والنار، وشرعن القمع نظريًا باسم “ديكتاتورية البروليتاريا”، وأخضع السياسة الداخلية والخارجية لمنطق الحزب والزعيم. ومع ذلك، لم يمنع هذا كثيرًا من الماركسيين اليوم من الحديث عن الديمقراطية، وهو حقهم الكامل، لأن الأفكار – كما التجارب – تتطور، وتتعلم، وتراجع نفسها.

وهذا بالضبط ما يطالب به الناصريون لأنفسهم: الحق في التطور، لا الحق في الإنكار. الحق في تجاوز التجربة، لا في تكرارها. الحق في أن يكونوا جزءًا من معركة الحاضر، لا أسرى لمحاكمات الماضي.

الأخطر من ذلك كله أن هذا الاشتباك المستمر حول الرموز، في لحظة تاريخية بالغة الهشاشة، لا يخدم الديمقراطية، بل يخدم نقيضها. إنه يُفكك أي إمكانية لتشكّل جبهة وطنية عريضة، عابرة للأيديولوجيات، قادرة على مواجهة حكم الفرد المتجدد، الذي لا يحتاج اليوم إلى خطاب شمولي صريح، بل يكتفي أحيانًا بلغة ديمقراطية ناعمة تُفرغ المؤسسات من مضمونها، وتُبقي السلطة مركّزة كما هي.

لسنا في حاجة إلى إعادة تصنيف بعضنا البعض وفق خرائط القرن العشرين، ولا إلى مسابقات في البراءة التاريخية. نحن في حاجة إلى اتفاق صريح على قواعد المستقبل: دولة قانون حقيقية، مؤسسات مستقلة، تداول سلطة فعلي، عدالة اجتماعية، وسيادة وطنية لا تُختزل في الشعارات. هذه القيم لا يملكها تيار بعينه، ولا يحتكر الحديث باسمها أحد.

الناصرية، في صيغتها المعاصرة، لا تسعى إلى استعادة دولة يوليو، بل إلى تجاوزها تاريخيًا، مع الحفاظ على جوهر لم يفقد معناه: الاستقلال الوطني، والانحياز الاجتماعي، وكرامة المواطنين. والماركسية، في صيغتها المتجددة، لا تدافع عن الستالينية، بل عن العدالة والتحرر والديمقراطية الاجتماعية. فإذا كان هذا هو التقاطع، فلماذا الإصرار على تحويله إلى ساحة نزاع؟

هذا النداء ليس دعوة إلى محو الخلاف، ولا إلى تذويبه في مجاملة زائفة، بل إلى وضعه في مكانه الصحيح: خلاف فكري مشروع داخل معسكر يسعى – أو يفترض أنه يسعى – إلى الهدف نفسه.

أما تحويل التاريخ إلى أداة لنزع الشرعية، فلن ينتج ديمقراطية، بل سيعيد إنتاج العزلة، ويترك الساحة فارغة لمن لا يؤمن بدولة ولا بمؤسسات ولا بمجتمع.

إن معركتنا اليوم ليست مع عبد الناصر، ولا مع ستالين، بل مع الاستبداد وهو يعيد اختراع نفسه. ومن يخشى حقًا عودة حكم الفرد، عليه أن يبحث عن حلفاء في الحاضر، لا عن خصوم في الماضي.

كلمة أخيرة: إما توافق مبني على الاحترام المتبادل أو فضوها سيرة؟
---------------------------------
بقلم: محمد حماد

مقالات اخرى للكاتب

انتباه | نداء إلى الماركسيين