وقفت أمام اللوحات كمن يطالع مرايا الروح.. فى معرض جيهان فايز الصمت ليس غيابا للضجيج، بل هو لغة بصرية باذخة تتجاوز حدود الكلمات. الخطوط تختصر مسافات الزمن فى محاولة وإصرار جيهان ترويض الابدية، واقتناص شعور عابر فى إطار لا يموت.
خرجت من المعرض المقام بقاعة بيكاسو بالزمالك وأنا أحمل في عيني رؤية مغايرة للعالم، وأن الوجود يرى بالبصيرة قبل البصر، وأن الجمال هو الجسر الوحيد الذي يربط فناءنا بخلود المعنى.
الدكتورة جيهان فايز (أستاذة التصوير بكلية الفنون الجميلة بجامعة المنيا) من الأسماء البارزة التي تمتلك أسلوبا فنيا يجمع بين الأكاديمية الرصينة والنزعة الوجدانية الصوفية.
ويتجلى أسلوبها بوضوح في معارضها الأخيرة مثل "متون" و"تكايا". فهي لا ترسم مجرد شخوص أو أماكن، بل تستحضر "حالة" روحية. كلمة "متون" تشير إلى النصوص القديمة المكثفة، و"تكايا" ترمز للملاذ الروحي للمتصوفة، لذا يظهر في أعمالها نوع من التضرع البصري والبحث عن الجوهر خلف الشكل. وبحكم تخصصها الأكاديمي في التصوير الجداري، يتميز أسلوبها بثراء الملمس حيث تستخدم تقنيات متنوعة تشمل ألوان الزيت، الإكريليك، وعجينة الورق، وحتى الأسمنت والخزف في بعض تجاربها، وتتعامل مع اللوحة كبناء معماري، حيث تظهر الخطوط قوية والمساحات اللونية متداخلة بحرفية تمنح العمل عمقاً بصرياً. كما يميل أسلوبها إلى التلخيص والتبسيط، وتهتم بحياة البسطاء والعشوائيات في الجنوب، لكنها لا تنقل واقعهم بشكل فوتوغرافي، بل تعيد صياغته في قوالب فنية تبرز قيم الجمال في "البيوت الهشة" وتفاصيل الحياة اليومية، محولة إياها إلى "نص بصري وجداني".
تستخدم الفنانة درجات الطمي والألوان الأرضية التي تعكس ارتباط الإنسان بأصله وجذوره. ويظهر اللون الذهبى في أعمالها كرمز "للأيقونة" أو "النور" وسط الظلال، مما يمنح اللوحة مسحة قدسية أو تاريخية تذكرنا بالفن المصري القديم، الذى يؤكد أصالة الفنانة التى تمزج بين الروح المصرية المحلية، والتراث الصوفي وبين الحداثة التشكيلية التي تعتمد على البحث والتجريب الدائم في الخامات والرموز.
يتضح من اختيارات عناوين معارضها أنها لا تقدم لغة تشكيلية مجانية ولكنها تبحث بحث العابد والكاهن عن عمق الاشياء ومدلولاتها. فهي لا تتعامل مع اللوحة كسطح للتزيين أو استعراض المهارة، بل كـمحراب للمكاشفة الروحية.
عندما تختار أسماء مثل "متون"، فهي تستدعي جوهر اللغة وأصول المعرفة (المتن هو الأصل والشرح هو الهامش). وعندما تختار "تكايا"، فهي تستحضر ملاذات الروح ومقامات الزهد. هذه العناوين ليست "مجانية" لأنها تفرض على المتلقي تهيئة نفسية قبل رؤية العمل، وكأنها تدعوه لخلع نعليه قبل الدخول إلى عالمها الفني.
أنها تبحث عن الحقيقة وراء الرمز، تبحث عن "روح المكان" وجوهر الشخوص. هي لا ترسم جدران العشوائيات لأنها متهالكة، بل ترسمها لأنها تحمل "ذاكرة" سكانها وصبرهم، فتحول الشقوق في أعمالها إلى "نصوص" مقروءة، والخطوط البيضاء التي تحركها أعماقها على سطح اللوحة تصبح كأنها خيوط من نور تكشف المستور.
اللغة التشكيلية عندها ليست عبثية؛ كل ملمس خشن وكل طبقة لونية "أرضية" هي محاولة للالتصاق بالتراب والمنشأ. هذا البحث "الكهنوتي" يتجلى في صبرها على بناء اللوحة طبقة فوق طبقة، تماماً كما تُبنى الأساطير أو تكتب المخطوطات القديمة، مما يمنح أعمالها ثقلا تاريخياً ووجودياً.

ترفع جيهان فايز من شأن "المهمش" وتمنحه قداسة الأيقونة. البيوت البسيطة، الوجوه المتعبة، والزوايا المنسية تتحول في لغتها إلى "مقامات" فنية تستحق التأمل والتبجيل.
ومن "المتون" و "التكايا" إلى "لوميناريا"(الضوء/التجلي) الذى يمثل رحلة صوفية مكتملة الأركان.
ولوميناريا (Luminaria) تعني في الأصل "نور" أو "إضاءة" بالإسبانية واللاتينية، وتستخدم للإشارة بشكل خاص إلى الفوانيس الورقية التقليدية المضاءة بالشموع، خاصة في احتفالات عيد الميلاد في جنوب غرب الولايات المتحدة والمكسيك.
وتصدر معرضها الجديد "لوميناريا" كلمة ثبتتها على مدخل القاعة قالت فيها : "لوميناريا.. هي محاولة لالتقاط اللحظة التي يتشكّل فيها الضوء من داخل الخط ، لا كعنصر خارجي بل كقوة تمنح الأشياء حق الظهور. هنا لا يكون الخط حدا، بل ضوءا يكشف ويعيد ترتيب حدود الكائنات، ليصبح الضوء إطارا للمعنى وحالة من الوعي. ومن داخله تظهر الطيور ككائنات عابرة بين طبقات اللون، تترك أثرا خفيفا من الحرية وتفتح أفقا يتجاوز حدود اللوحة. في لوميناريا، الحدود هي البداية"
إن استخدام الفنانة جيهان فايز لمصطلح "لوميناريا" (Luminaria) كعنوان لمعرضها الجديد هو اختيار دقيق يعكس انتقالها من مرحلة "التنقيب في المتون" إلى مرحلة "استعادة الضوء". هذا المصطلح، الذي يشير تاريخياً وفلسفياً إلى "الفوانيس" أو "الأكياس الورقية المضاءة بشمعة" والتي تستخدم لإضاءة المسارات في الاحتفالات الدينية أو الروحية، يحمل أبعادا فلسفية عميقة في سياق تجربتها. فالـ "لوميناريا" ليست مجرد مصدر للضوء، بل هي "منارة صغيرة" ترشد التائهين. في أعمالها، يتحول الفن من كونه "موضوعاً للمشاهدة" إلى "دليل للمسار". وكأنها بهذا العنوان تواصل دورها "الكهنوتى" الذي ذكرته، حيث تضع للمتلقي علامات ضوئية وسط ضجيج الحياة وعتمتها، لترشده إلى جوهره الداخلي.
ورغم أن اللوميناريا تقليدياً تتكون من مادة هشة (ورق) لكنها تحمي بداخلها شعلة النار. هذه الثنائية الفلسفية (جسد فاني وهش يحمل روحاً خالدة ومتوقدة) تلخص رؤية جيهان فايز للإنسان والمكان، فهي ترى في البيوت المهمشة والوجوه المتعبة غلافا ورقيا يخفي وراءه نورا إلهيا وجلدا عظيما.
فبينما يركز العالم المعاصر على "الأضواء الكاشفة" والبهرجة، تنحاز جيهان فايز لـ "اللوميناريا" التي تعطي ضوءا خافتا، دافئا، وحميما. قيمة هذا الضوء تكمن في "التجلي" لا "الظهور"؛ هو ضوء ينبع من قلب اللوحة ومن مسامات اللون -تلك الخطوط البيضاء التي أشرت إليها سابقا - ليخلق حالة من السكينة الروحية والمكاشفة الهادئة.
اللوميناريا غالبا ما توضع في صفوف أو مجموعات لتحديد طريق أو تزيين فضاء عام، وهذا يشير إلى "الوحدة الإنسانية"؛ فكل لوحة في المعرض هي "لوميناريا" مستقلة، لكنها في مجموعها تشكل مشهدا كونيا واحدا يدعو للدهشة والتأمل، محولة قاعة العرض إلى "فضاء مقدس" يشترك الجميع في استنارته.
بهذا الاختيار، تؤكد جيهان فايز أنها لا تقدم فنا مجانيا للمتعة البصرية العابرة، بل تقدم "قناديل" تشكيلية تحاول بها تبديد الوحشة الروحية المعاصرة.
---------------------------------
بقلم: د. سامي البلشي














