27 - 12 - 2025

الحاج علَّام أبو جَميل.. والراء المشاكسة!

الحاج علَّام أبو جَميل.. والراء المشاكسة!

شرعتُ منذ فترة في سردِ بعض المواقف والذكريات مع شخصيات، كان لها أثرٌ في حياتي الشخصية، فضلا عن غيري، وأرى أنّه لا مانع أبدا من سرد بعض المواقف مع أشخاص تجمعُني بهم صلةُ قرابة، ولن يكون هذا انحيازا أبدا؛ لأن العبرة بالموقف سواء كان الشخصُ قريبا أو غيرَ قريب .

قَلِّبْ الصِّلةَ، حيثما شئت، فستعلم أنّه ابن خالتي وابن خالي معا ـ رحم الله الجميع، وطيَّب ثراهم - فقد مضوا إلي وجه الكريم، وتركوا سيرة تُذكر، وأخلاقا تُدرَّس في الطيبة والكرم والعطاء بسخاء وبطيب نفس، دون إكراه، أو بُغية الرياء .

الحاج علام أبو جَميل، ناظر محطة سكة حديد بنها، هو الابن الوحيد للحاج أبو جميل علام، والذي نال من عطف أبيه، وتدليل أمه مالم ينله الكثيرون من أبناء جيله، فنشأ مُترفا في النعيم على خلاف كثيرٍ من أبناء جيله، ممن عانوا الفقر والحرمان، وألهبت بطونهم مرارةُ الجوع .

شكى الولد لأبيه يوما من طول المسافة بين بيته ومدرسته، وأنّه بحاجة إلي (درَّاجة) سبق، تُهوّن عليه مشقةَ الرحلة، وتوفّر له الوقت الضائع سيرا علي الأقدام من وإلى المدرسة، وهو ما سيستغله ـ قطعا ـ في مذاكرة دروسه .

على التوِّ، استجاب الوالدُ لطلب ابنه الوحيد، واشترى له دراجة، دون تفكير، ولِمَ التفكيرُ، وهو ابنه الوحيد، الذي جاءه على شوق، كحبيبٍ أتى علي فاقة، ومن ثمَّ فكلُّ طلباته أوامر، حتى ولو طلبَ لبن العصفور، فلن يتوانى الأب في إحضاره، وإن كان في بلاد (تركب الأفيال)، أو جزر (الواق واق) .

جيء لعلام بالدراجة، واعتاد أن يستقلّها، ويجوبَ بها طرقات القرية النائمة في صمت مطبق، خاصة وقت القيلولة بشمسه المحرقة أيام الصيف القائظ؛ لقضاء مصالحه، فضلا عن استخدامها في الذهاب والعودة من وإلى مدرسته بمدينة بنها .

لم يفكّر علام، كيف وفَّر له والده ثمن الدراجة، التي تميّز بها عن أقرانه، ممن يقطعون رحلتهم سيرا علي الأقدام، بل إنهم كانوا يتأبطون أحذيتهم جيئة وذهابا؛ خشية أن تهترئ من طول الطريق !

خرج علام بدراجته الجديدة، يتريض بين أشجار الكافور والجزورين يوما، وكان التحدي بينه، وبين أقرانه أن يجتاز بالدراجة المطبات، وهو على سرعته، دون إبطاء، وبلا سقوط، وأن يعبرَ (جداول) المياه، التي تقطع الطرق بلا توقف، فشاهده أبوه يوما، وهو يخوض غمار هذا التحدي، ويقتفي أثر (الجداول) لاجتيازها وكسبِ الرهان، دون خوف من تحطم الدراحة؛ نتيجة اصطدامها بالأرض، فناداه، وقد دمعت عيناه من الحزن وهو كظيم: (لو عرفتَ كيف وفرتُ لك ثمنها كنت رحمتها) !

أثَّرت الكلمةُ في نفس الولد، وقطع على نفسه عهدا بأن يمشي الهويني، ويتفادى الحفر والمطبات؛ رحمة بأبيه المسكين، وحقا: (العبدُ يُقرعُ بالعصا، والحرُّ تكفيه الإشارة) .

كان بين الحاج علام ـ رحمه الله ـ وبين حرف (الراء) ثأرٌ (بايت)، إذ كان ينطقها ياء، وهو ما جعله، يتفاداها في معظم كلماته، ولا يلجأ إليها إلا اضطرارا.

في زيارة له وجدتُه، وقد اغرورقتْ عيناه بالدمع، فسألته عن السبب، فقال مُتعجِّبا، وهو يضربُ كفَّا بكف: ترك أولادي كلَّ الأسماء، ولم يختاروا لحفيدتيَّ سوى اسمي (يانا، وياوان)، يقصد (رنا وروان)، فقلت له: يعني، يسمون لك لواحظ وجمالات؛ حتى يرضوك يا عم الحاج، وحِّد الله في قلبك، وقل يارب، فقال (يايب)، يقصد يارب، فضحك وضحكتُ معه .

كان الفقيد رحمه الله سبَّاقا في عمل الواجب، غير متوانٍ في مشاركة أهله وأقاربه وجيرانه في أفراحهم وأتراحهم .

حباه الله بسطة في الجسم، جعلته زينة المجالس، ومحطَ أنظار الجميع، فإليه تنتهي الكلمة، وإذا قال، يُسمَع له؛ ثقة في رأيه، وطيبة قلبه .

امتاز الفقيدُ برجاحة عقله، وشدة أمانته، فكان موضع ثقة الآخرين، ومُستودعَ أسرارهم، ومقصدهم في الرأي والمشورة، ومن هؤلاء ـ أقول وبصوت عال ـ زوجتي، وأم أولادي، التي تحبه حبّا جمّا !

حرص الرجلُ على العمل الخيري، فأسس بفضل علاقاته الواسعة مُستوصفا طبيا بمبنى السكة الحديد ببنها، قدّم العديد من الخدمات العلاجية، والجراحات البسيطة للمحتاجين، كما شارك في عمل جمعية استهلاكية، تقدّم السلع التموينية بأسعار مُخفضة .

كان مكتبُه بالمحطة، وبيتُه مقصدَ كلَّ من يُولّي وجهه شطر مدينة بنها لقضاء مصلحة، فتُكرَم ضيافتُه، وتُمدُّ له يدُ العون .

أنعم الله على الفقيد بذرية طيبة، سارت على نهج أبيهم كرما وعطاء وبشاشة وجه .

رحم الله الفقيد، وأجزل له المثوبة، وبارك في ذريته وأحفاده، حتى وإن شملت أسماؤهم حرفَ الراء المشاكس .

(من غٌواية السيرة الذاتية)
----------------------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام
 

مقالات اخرى للكاتب

الحاج علَّام أبو جَميل.. والراء المشاكسة!