27 - 12 - 2025

نحبهم.. ولكن لا نعوّل عليهم!

نحبهم.. ولكن لا نعوّل عليهم!

ثَمّة صنفٌ من البشر يمرّون في أعمارنا كملمس الحرير، ينسابون في الروح برِقّةٍ مباغتة، كأنهم تلك النسمة التي تأتي في عزّ حرّ الصيف، لتهبنا ارتعاشةً من الانتعاش، ثم تمضي دون أثر ، نحبّ وجودهم، ونستلذّ بحديثهم، ونأنس بوهج حضورهم الذي يبعث في النفس طمأنينةً مؤقّتة، لكننا في أعماقنا التي لا نجرؤ على البوح بها ندرك يقينًا أنهم لا يُعوَّل عليهم .. فهم يشبهون تلك المقاعد الخشبية القديمة المنصوبة في طرقات الحدائق؛ تمنحك استراحةً لطيفة لبرهةٍ من الزمن، لكنها لا تحتمل ثِقل روحٍ تبحث عن سندٍ حقيقي، ولا تقوى على حمل أوجاعك حين يشتدّ عليك المسير.

إن هذا الوجود الهشّ يُجسِّد ما ذهب إليه محمود درويش حين قال:

"إن القلوب حين تمتلئ بالظنّ الجميل تصبح أكثر عُرضة لوجع الخيبة"؛

فنحن في غمرة حاجتنا للأمان نرتكب خطيئة الإفراط في الظن، بينما يبرعون هم في فنّ الغياب أو الحضور الباهت، فتصبح العلاقة معهم رهينة المصادفة والظرف اللحظي، لا نتاجًا لعمق الالتزام أو متانة الوفاء ، هؤلاء هم الذين نلتفت إليهم في لحظات العَوَز والاحتياج فلا نجدهم؛ مشاعرهم تتشكّل وتتغيّر وفق ما تسمح به فوضى أيامهم ومزاجيتهم المتقلّبة.

وتتعدّد أقنعة هؤلاء في حياتنا لتمسّ أدقّ دوائرنا؛ فمنهم الصديق الذي يملأ الدنيا ضجيجًا ومرحًا في أوقات فراغه، ويكون خير رفيق في نزهة أو سهرة، لكنه يتبخّر عند أوّل بادرة ضيقٍ ماديّ أو معنويّ. ، ومنهم الحبيب الذي يُغدق عليك كلمات الغرام ويعدك بالبقاء للأبد، متمثّلًا كلمات نزار قباني عن الحبّ المستحيل، لكن حبه في الحقيقة هو حبٌّ لـ"حالة الحب" لا "للشخص" بظروفه وانكساراته؛ فهو يهوى الطريق المُمهَّد بالورد، وما تغدقه عليه من مشاعر واهتمام، وينسحب عند أوّل منعطفٍ وعر ، بل إنّ منهم الأقارب الذين تملأ وجوههم الابتسامات في المناسبات الموسمية، لكنك عند حاجتك إلى موقفٍ حاسم أو سندٍ عائلي، لا تجد منهم إلا دعواتٍ باردة تُرسل عن بُعد، وكأن صلة الدم عندهم مجرّد طقسٍ اجتماعي لا يترتّب عليه عبء أو تضحية.

إن المؤلم في هذه العلاقات ليس تقصيرهم بحدّ ذاته، بل ذلك الكرم غير المفهوم الذي تمنحه قلوبنا لهم؛ فنحن نُصدّق كلماتهم ونبني عليها آمالًا عريضة، بينما لا يشهد واقعهم على صدق ما يقولون ، فبين القول والفعل مسافة شاسعة لا يقطعها إلا أولو العزم من الرجال .. وهنا ينهض السؤال الثقيل حول مكانة هؤلاء في حياتنا؛ فنحن لا نقوى على كرههم لأن وجودهم يمنحنا نوعًا من الجمال العابر، ولا نستطيع الاعتماد عليهم لأن غيابهم المتكرّر يشبه خرابًا صغيرًا يتكرّر في كل مرة ، ولذلك نضعهم في تلك المنطقة الرمادية التي وصفها علي بن أبي طالب بأنها تختبر الرجال عند الحاجة والغضب والسفر؛ فإذا لم نجدهم في هذه المواطن، أيقنّا أنهم ليسوا سوى ظلالٍ تمشي على الأرض.

ولا شكّ أن ثَمّة نضجًا قادمًا لا محالة، يولد من رحم تلك الخيبات المتكرّرة، وهو نضج يبدأ حين ندرك أن فنّ التعامل مع هؤلاء "العابرين الدافئين" لا يكمن في محاولة تغييرهم، بل في إعادة رسم خرائطنا النفسية بحيث لا يكونون هم "المركز"  وهذه أولى خطوات التحرّر من سطوتهم العاطفية  بأن ننزع عنهم صفة "السند" ونُلبسهم رداء "الضيف" ، فالمطالبة بالثبات من شخصٍ لا يملك إلا الرقة العابرة هي نوعٌ من العبث الذي يستنزف الروح. وحين نتعامل معهم بمنطق "الاستمتاع بالموجود دون انتظار المفقود"، نتحرّر من قيد الترقّب، ونكفّ عن لومهم على عجزهم، تمامًا كما لا نلوم الزهر لأنه لا يُثمر، أو السحاب لأنه لا يُمطر؛ فقبول حدود الآخر هو أول طريق السلام مع النفس.

والكثير من التجارب معهم يصل بنا الي قناعة بأن بعض الناس يصلحون ليكونوا "رفقاء لحظات" لا "أعمدة حياة".. يصلحون للحديث لا للاتكاء، وللفرح العابر لا للأمان الطويل ، قد يحبّوننا بطريقتهم، لكن طريقتهم لا تُسعفنا، ولا تليق بنا، ولا تُلبّي ما نستحقه من حضورٍ ثابت.

وبعد تعبٍ طويل، نصل إلى حكمةٍ مفادها أننا لا يجب أن نغضب منهم بقدر ما ينبغي أن نفهم حدودهم؛ فالإنسان لا يعطي إلا بقدره، ولا يستطيع أن يكون سندًا إن كان نصفه غائبًا عن نفسه أصلًا ، ولذلك فإن إنصاف أنفسنا يقتضي ألّا نطلب من أحدٍ ما لا يقدر عليه، وألّا نمضي في طرقٍ نعرف أنها تؤدي إلى خيبة.

نحبهم، نعم… لكننا لا نعوّل عليهم.

نُقدّر دفئهم، لكننا نعرف أنه لا يكفي لنشعل به برد العمر.

ونترك لهم مكانًا في القلب، لكن بعيدًا عن المنطقة التي تُبنى فيها الأمانات وتُعلّق عليها الحياة.

هكذا فقط نضعهم في موضعهم الحقيقي: جميلون… لكنهم ليسوا لنا،

والرحلة تستمرّ بمن هم أجدَر بالبقاء.
----------------------------
بقلم: سحر الببلاوي

مقالات اخرى للكاتب

نحبهم.. ولكن لا نعوّل عليهم!