تفتّح وعيي في سنوات التكوين الأولى على أثير الإذاعة، حيث كانت تبث الأغاني الوطنية، ويعرض التلفزيون مشاهد الحروب التي خاضتها مصر، بدءًا من حرب فلسطين عام 1948، وصولًا إلى نصر أكتوبر المجيد عام 1973. كانت هذه الأصوات والصور أولى خطواتي نحو فهم هويتي الوطنية وتاريخ بلادي.
وبما أنني بورسعيدي المولد والنشأة، فقد ترسّخت في وجداني قيم المقاومة الشعبية، حين صمدت المدينة وواجهت قوى العدوان الثلاثي عام 1956، وصُنعت بطولات خالدة لا تمحى من الذاكرة الوطنية.فغُرست في داخلي معاني التضحية والفداء من أجل الوطن،
كما أسهمت الإذاعة المحلية لمحافظة بورسعيد في تشكيل وجداني، بصوتها الذي كان يملأ أجواء المدينة قبل وأثناء الاحتفال بعيد بورسعيد القومي "23 ديسمبر". وقد شاركت طفلا في العرض العسكري، وأنا أحمل في قلبي شعورًا بالعزة والانتماء، واستمر شرف المشاركة حتى المرحلة الثانوية، فصار الحدث جزءًا من تكويني.
وكان لطابور المدرسة صباح كل يوم، وعزف السلام الوطني، وتحـية العلم، كأنها أنغام تُغرس في الروح قيم الولاء والانتماء، في زمن كانت فيه المدارس الحكومية «فرض عين» على الجميع، قبل ظهور المدارس الدولية التي أسهمت، للأسف، في تعميق الفجوة الطبقية داخل المجتمع.
التقطت كل تلك المدخلات بوعي فطري، وكبرت على تلك المبادئ التي غُرست في داخلي، بوصفها ثوابت لا شعارات.
لكنني اليوم، تتعثر عيناي بمعاول هدم متتابعة، تستهدف تلك المبادئ ذاتها التي نشأت عليها، والتي كانت تمثل رمزًا أيقونيًا لحزمة ثرية من القيم التي اندثرت، أو كادت تندثر.
ثمة نهج يتربص بالعقول، وينفخ فيها باتجاه هدم الرموز، وتقويض الأمثلة المحتذى بها في شتى المجالات. وهو نهج معروف في كتالوجات التغريب، ومختصرات تفكيك المجتمعات. وهذه ليست نظرية مؤامرة، بل حقيقة واضحة؛ إذ لم يعد كافيًا نفي الحاضر، بل بات نفي الماضي ضرورة، لضمان نفي المستقبل ذاته.
ويتجلى ذلك بوضوح حين نسمع أصواتًا تطالب بإعادة تمثال ديليسبس إلى مكانه عند المدخل الشمالي لقناة السويس، في محاولة لتكريم شخص ارتبط اسمه باستغلال ثروات مصر، وسفك دماء الشعوب. هذه الدعوات تتجاهل دماء الشهداء وتاريخ النضال الوطني ضد المستعمر عبر عقود، وكأن الاستقلال كان خطأً أو عبئًا ينبغي التبرؤ منه.
لم يتوقف الأمر عند المطالبة بإعادة التمثال الذي نسفته المقاومة الشعبية عام 1956، بل تعداه إلى اتخاذ مواقف معارضة لقرار تأميم قناة السويس ذاته، أي معارضة صريحة لإرادة الشعب في الاستقلال والتحرر من الاستعمار.
كنا نظن أن دعاة التغريب قد أصبحوا جزءًا من الماضي، لكن المؤسف أن بعضهم ما زال مفتونًا بالغرب، وبالعودة إلى زمن الاحتلال، واصفًا إياه زورًا بـ«الزمن الجميل»، حين كان المواطن المصري ذليلا في وطنه، منزوع الإرادة والكرامة.
والأدهى من ذلك أن تتقاطع هذه الدعوات مع قرارات رسمية لا تقل خطورة، كقرار هدم المتحف القومي ببورسعيد، والإعلان عن طرح أرضه لإقامة فندق عالمي.
تخيل أن يهدم متحفٌ قومي يوثّق للحضارة المصرية، قائم عند مدخل قناة السويس، أحد أهم الممرات الاستراتيجية في العالم، يُختزل فجأة إلى قطعة أرض استثمارية!
أليس في ذلك طمسٌ صريح للهوية الوطنية؟
أليس استبدال الذاكرة الجمعية بالإسمنت والخرسانة، والتاريخ الحي بمشروع استهلاكي عابر؟
إن ما يجري ليس «تطويرًا»، بل تفريغٌ للمعنى، وتحويلٌ للرموز من شواهد على الوعي والوجدان إلى سلع خاضعة لمنطق الربح السريع، في مشهد يعكس أزمة عميقة في فهم قيمة التاريخ ودوره في بناء الحاضر والمستقبل.
واليوم يستميت دعاة التغريب في تسويق أفكارهم بين العامة، عبر الترويج لفكرة أن عودة تمثال ديليسبس ستضع بورسعيد على الخريطة السياحية، وتدر على المدينة ملايين الدولارات سنويًا، وكأن السياحة لا تقوم إلا على تمجيد المستعمر، أو إهانة تاريخ النضال الوطني.
وبدلًا من أن تتصدى الدولة ومؤسساتها لهذه المخططات الخطيرة، تُترك الساحة لصراع مجتمعي محتدم، بلغ حد التخوين والاتهام بالعمالة، بين دعاة التغريب من جهة، وأنصار الهوية الوطنية من جهة أخرى، في مشهد يعكس عمق الأزمة، وخطورة ترك الذاكرة الوطنية بلا حراسة.
-----------------------------------
بقلم: هاني عبدالعزيز عجيبة






