ما أن أصدر مجلس الوزراء اللبناني قراره بحصرية السلاح بيد الدولة، وتسليم حزب الله سلاحه، حتى استبق الحزب الأحداث وطرح مناقشة انسحاب إسرائيل، وإطلاق سراح الأسرى، ووقف الأعمال العدائية، قبل النظر في موضوع السلاح، بما يدفع المناقشات إلى طريق طويل لا يعلم أحد مداه، من جانب آخر تضغط إسرائيل على الحكومة اللبنانية وتتهمها بالتعاون مع الحزب.
لا يبدو أن البدائل المطروحة لنزع سلاح الحزب تتضمن حلاً توافقيًا، الحلول المطروحة تتسق من صنف النظام الثنائي Binary، صفر وواحد، المستخدم في تشغيل الكمبيوتر، مما يضع الأطراف أمام موقف "لا خيارات".
كان حزب الله قد بدأ نشاطه العسكري في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، مُتخذًا من جنوب البلاد، صُور وصيدا وغيرهما - مواقع تمركز، إلى جانب تواجد قوي في الضاحية الجنوبية في بيروت، مقدمًا نفسه كامتدادٍ للثورة الإسلامية الإيرانية وللمذهب الشيعي.
ومع تنوع وتعدد عملياته النوعية ضد القوات الإسرائيلية، اكتسب الحزب قبولاً شعبيًا لدى بعض القطاعات خارج حدود لبنان، رغم ما ترتب على تلك العمليات من تبعات دفع لبنان بكامله فاتورة حسابها.
في عام 2006 خاض حزب الله حربًا مع إسرائيل إثر عملية أسر جنود، أسفرت عن خسائر كبيرة من الجانبين، وعززت مكانته داخليًا وخارجيًا رغم الكلفة البشرية العالية، وبإعلان السيد حسن نصر الله (1960-2024)، أمين عام الحزب، النصر الإلهي اندلعت مظاهرات التأييد، واكتسب الحزب شعبية واسعة بين طوائف الشعب اللبناني كافة، وليس الشيعة فقط، بينما واجه القادة العسكريون الإسرائيليون انتقادات عنيفة، اضطرت بعضهم للاستقالة، لعدم قدرتهم على حسم المعركة.
وقد عُرفت هذه الحرب في الأدبيات السياسية باسم "حرب لبنان الثانية"، حيث وقعت الأولى عام 1982، شهدت أحداثًا مفصلية من أبرزها خروج منظمة التحرير من لبنان، وارتكاب إسرائيل مجزرة صبرا وشاتيلا.
على التوازي، ارتبط الحزب بإيران ارتباطًا استراتيجيًا، وامتد دوره إلى سوريا، ولعب دورًا أساسيًا في دعم نظام الأسد، ومنع سقوطه بعد أحداث 2011، أو ما أُطلق عليه الربيع العربي.
وقد أظهرت عملية "طوفان الأقصى" من جانب حماس في أكتوبر 2023، هشاشة في منظومة الردع الإسرائيلية، وفرضت واقعًا ميدانيًا غير متوقع، أحرج القيادة الإسرائيلية وغَيّر توازن القوى مؤقتًا، حيث تمكنت قوات حماس بإمكاناتها المتواضعة من تحقيق مكاسب على الأرض وضعت قيادة الاحتلال في حرج، يزيد إذا حاربت وحدها.
بإقامة جسر جوي بين واشنطن وتل أبيب، فضلاً عما قدمته الدول الأوروبية تغير الموقف الميداني لصالح إسرائيل التي اتبعت سياسة الأرض المحروقة، بمعنى تسوية المباني بالأرض ليلتحم اللحم بالحجر، بينما تولت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية "قنص العصافير" في إيران ولبنان وسوريا، حيث طالت الاغتيالات النوعية القيادي إسماعيل هنية، الزعيم السياسي لحركة حماس في قلب طهران، ونائبه صالح العاروري في بيروت، وبعدها بشهرين استهدفت حسن نصر الله، أمين الحزب ومساعديه، وهاشم صفي الدين، المرشح لخلافته، وقادة ميدانيين من حركة حماس وحزب الله، كان أقساها ما عرف إعلاميًا بـ"تفخيخ البيجر"، حيث تزامن انفجار أكثر من ثلاثة آلاف بيجر في وقت واحد أوقعت قتلى ومصابين، كان الحزب قد استوردها من تايوان ووزعها على رجاله في لبنان وسوريا وإيران، مما أثار تكهنات حول تورط أجهزة استخباراتية خارجية في زرع برمجيات خبيثة.
وفي ظل المشهد الراهن، وبعد ما أدت إليه المواجهات الإسرائيلية من ضعف كبير في قدرات حزب الله السياسية والعسكرية، وحان وقت الجلوس إلى طاولة المفاوضات، تصدر بند نزع سلاح الحزب قائمة الطلبات، غابت معها الحلول التوافقية لدمج الحزب في نسيج القوة العسكرية للدولة، مما أوجد حالة من التربص بين الأطراف كافة.
هنا تتجلى ثنائية اللاخيار؛ فبينما يرى طرفٌ في سلاح الحزب استقواءً يهدد السلم الأهلي، تخشى قيادات الحزب عواقب التخلي عن "قوة الردع" وما قد يتبعه من استباحة أو تهجير للموالين له.. وفي هذه الحالة تُكرس القطيعة، وتظل النتيجة (صفراً).
بينما يمكن أن تتحول المحصلة إلى (واحد) صحيح، إذا ما فُتح الباب لسؤال من فصيلة: ماذا لو دُمج الحزب في كيان واحد مع القوة الرسمية للدولة، ليُشكلا معاً قوة مساندة وازنة سياسياً وعسكرياً؟ حينها فقط، يصبح الدمج الوطني بديلاً استراتيجياً وعملياً لسياسات الإقصاء.
----------------------------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]






