رغم أن بنغلاديش، في ظاهرها، دولة تحدها الجغرافيا وتحتويها الخرائط، فإن روحها الاجتماعية والثقافية تنفتح على أفق واسع من التنوع والتعدد. ففي نسيج تاريخها، ولغتها، وثقافتها، وأنماط عيش أهلها، تتجلى ملامح التعدد بوصفه سمة أصيلة لا طارئة، كما تتجلى في بنيتها الدينية صورة التعايش الطبيعي بين الاختلاف والوحدة. وإلى جانب الغالبية المسلمة، عاشت على هذه الأرض، عبر قرون مديدة، جماعات من الهندوس والبوذيين والمسيحيين، فضلا عن طوائف من المجموعات العرقية الصغرى والمجتمعات الأصلية، في مسار تاريخي طويل من التجاور والتفاعل. وهكذا غدا التنوع الديني أحد المرتكزات الأساسية للواقع الاجتماعي في بنغلاديش، لا بوصفه مجرد معطى عددي أو توصيفا هوياتيا، بل باعتباره مجالا حيا تتداخل فيه قيم التلاحم الاجتماعي، والتسامح المتبادل، والمسؤولية الأخلاقية.
التعايش الديني في الأفق التاريخي:
إن تاريخ البنغال، في جوهره العميق، هو تاريخ تعايش وتلاقح حضاري. ففي العصور الأولى، تركت الحضارتان البوذية والهندوسية بصماتهما الراسخة، ثم جاء الإسلام في العصور الوسطى حاملا معه منظومة روحية وأخلاقية جديدة، أعقبته لاحقا أنشطة الإرساليات المسيحية، فتكاملت هذه المسارات لتنتج مجتمعا متعدد الأديان، متشابك الثقافات. وقد جرت هذه التحولات الدينية وانتشار المعتقدات، في أغلب الأحوال، عبر مسالك التفاعل الاجتماعي والامتزاج الثقافي، لا عبر دروب الصراع والإقصاء. وأسهمت رسائل المتصوفة القائمة على الرحمة والإنسانية، وروح المحبة والتعبد في الحركة الفيشناوية، فضلا عن اندماج الدين بالثقافة الشعبية، في تكريس الدين في بنغال قوة أخلاقية وإنسانية تهذب السلوك وتجمع ولا تفرق.
وتؤكد هذه الاستمرارية التاريخية أن التعدد الديني في بنغلاديش لم يكن، في أي مرحلة من مراحله، عامل انقسام جوهري، بل ظل، في جوهره، عنصرا من عناصر التماسك الاجتماعي، وقاعدة للتعايش السلمي، متى أدركت الدولة والمجتمع معا مسؤوليتهما التاريخية، والتزما بواجب الرعاية والعدل والإنصاف.
التعدد الديني في الدستور ورؤية الدولة:
جاء دستور بنغلاديش ليؤسس، في صميم بنائه الفكري والسياسي، لمبدأ الحرية الدينية والمساواة بوصفهما ركيزتين لا غنى عنهما في الحياة العامة. فقد أعلن التزام الدولة الصريح بصون الحقوق المتساوية، وضمان الأمن، وحفظ الكرامة الإنسانية لكل مواطن، بمعزل عن انتمائه الديني أو هويته العقدية. وتمثل هذه الرؤية الدستورية قاعدة أساسية للتماسك الاجتماعي، إذ إن الدولة حين تتحلى بالحياد وتستقيم على ميزان العدل، يتحول التعدد الديني من عامل قابل للتوتر والانقسام إلى فضاء رحب للاعتراف المتبادل والاحترام المشترك.
غير أن التجربة الواقعية تكشف، في بعض الأحيان، عن مسافة تفصل بين المثال الدستوري والتجسيد الاجتماعي له. وردم هذه المسافة لا يقع على عاتق الدولة وحدها، بل هو مسؤولية جماعية تتقاسمها مؤسسات التعليم، ووسائل الإعلام، والقيادات الدينية، ومنظمات المجتمع المدني، إذ تشكل جميعها منظومة واحدة معنية بترسيخ القيم الدستورية وتحويلها من نصوص مكتوبة إلى ثقافة مجتمعية حية.
التماسك الاجتماعي: المفهوم والدلالة:
التماسك الاجتماعي هو ذلك الرابط الخفي الذي يجمع بين أفراد المجتمع، على اختلاف انتماءاتهم وهوياتهم ومعتقداتهم، في شبكة من الثقة المتبادلة، والتعاون المشترك، والإحساس بالمسؤولية الجماعية. وفي ظل التعدد الديني، تتضاعف أهمية هذا التماسك، لأن أي سوء فهم طارئ أو خطاب تحريضي عابر قد يتحول، إذا لم يحسن التعامل معه، إلى شرارة تهدد استقرار المجتمع بأسره.
وفي دولة نامية وكثيفة السكان كـبنغلاديش، لا يقتصر التماسك الاجتماعي على كونه قيمة أخلاقية سامية، بل يتجاوز ذلك ليغدو شرطا أساسيا للاستقرار السياسي، ومحركا للتقدم الاقتصادي، وركنا من أركان الأمن الوطني. فحين تتصدع دعائم الانسجام الديني، تتآكل الثقة الاجتماعية، ويتعثر مسار التنمية، وتتأثر صورة الدولة ومكانتها في المحافل الإقليمية والدولية.
الهوية الدينية والهوية المدنية: معادلة التوازن
يطرح واقع التماسك الاجتماعي في بنغلاديش سؤالا عميقا يتصل بطبيعة العلاقة بين الهوية الدينية والهوية المدنية، وبحدود كل منهما في الفضاء العام. فالدين، في جوهره، شأن إيماني وأخلاقي يخص ضمير الفرد وسلوكه، أما الدولة والمجتمع السياسي فينبغي أن يقوم بنيانهما على الهوية المدنية الجامعة، التي تساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات. وحين تتقدم قيم المواطنة، وسيادة القانون، وصون الكرامة الإنسانية، يتراجع خطر تحويل الانتماء الديني إلى أداة فرز أو وسيلة إقصاء.
غير أن الإخلال بهذا التوازن الدقيق يفتح الباب أمام مخاطر جسيمة، إذ قد تتحول الأغلبية الدينية أو هوية الأقليات إلى أوراق في لعبة السياسة، فتغدو المعتقدات وقودا للصراع بدل أن تكون منابعا للقيم الأخلاقية. ويشهد التاريخ، في غير موضع، أن استغلال الدين لتحقيق مكاسب سياسية آنية يؤدي إلى تصدع النسيج الاجتماعي، ويضعف الثقة المتبادلة، ويمهد الطريق أمام العنف وعدم الاستقرار.
التعليم والثقافة: صناعة الوعي المشترك
لا يكتمل الحديث عن التماسك الاجتماعي من دون الاعتراف بالدور المحوري الذي تضطلع به التربية والتعليم في بناء الوعي الجمعي. فحين تقدم المناهج الدراسية التنوع الديني بوصفه ثراء إنسانيا، وتغرس قيم الاحترام المتبادل والتعايش والمسؤولية الأخلاقية، فإنها تسهم في تشكيل أجيال أكثر انفتاحا وأقدر على استيعاب الاختلاف. أما غياب الرؤية التعددية عن دروس التاريخ والعلوم الاجتماعية، فينذر بتكريس وعي ضيق، محكوم بهويات منغلقة ومفاهيم إقصائية.
وعلى المنوال نفسه، تؤدي الثقافة بآدابها، وموسيقاها، ومسرحها، وطقوسها الشعبية دورا يتجاوز حدود الدين والانتماء العقدي، لتجمع الناس في فضاء وجداني مشترك. فاحتفال بوهيلا بايشاخ، والأسواق الريفية، والأغاني الشعبية، والممارسة الأدبية ذات النزعة الإنسانية، كلها تشكل روافد تصب في بناء هوية بنغالية جامعة، هوية تتأسس على الذاكرة المشتركة، والتجربة الجماعية، والإحساس العميق بالانتماء إلى مجتمع واحد، متعدد في مكوناته، موحد في إنسانيته.
تأثير وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي
تؤدي وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في بنغلاديش المعاصرة دورا مزدوجا في مسار التماسك الاجتماعي، فهي، من جهة، تمتلك قدرة كبيرة على ترسيخ قيم الانسجام الديني وتعزيز ثقافة التعايش، متى التزمت بالمسؤولية المهنية واعتمدت سردا متزنا وإيجابيا للأحداث. غير أنها، من جهة أخرى، قد تتحول إذا ما انفلتت من ضوابطها الأخلاقية إلى أداة خطرة، تشعل الشائعات، وتروج للمعلومات المضللة، وتغذي خطاب التحريض والكراهية، بما يجعلها شرارة كامنة للعنف والانقسام.
وتتعاظم خطورة هذا الدور في الفضاء الرقمي، حيث يسهم غياب الحساسية تجاه القضايا الدينية، وضعف ثقافة التحقق والتدقيق، في تعقيد المشهد وتسريع انتشار التوترات. ومن هنا تبرز الحاجة الملحة إلى ترسيخ أخلاقيات الاستخدام الرقمي، وتعزيز الوعي الإعلامي لدى الأفراد، وإرساء مبدأ المساءلة القانونية، بوصفها ركائز أساسية لصون التماسك الاجتماعي وحمايته من التآكل والانهيار.
القيادات الدينية والمسؤولية الأخلاقية
تحظى القيادات الدينية في بنغلاديش بتأثير اجتماعي بالغ العمق، إذ تشكل الخطب والرسائل الصادرة من المساجد والمعابد والكنائس والأديرة منابع أساسية للتوجيه الأخلاقي والمعنوي في المجتمع. وحين تنحاز هذه الخطابات إلى قيم الإنسانية، والتسامح، والعدل، فإنها تسهم إسهاما حاسما في تعزيز أواصر التماسك الاجتماعي وترسيخ ثقافة العيش المشترك.
ولا تقتصر مسؤولية القادة الدينيين على الإرشاد الروحي لأتباعهم فحسب، بل تمتد لتشمل غرس قيم الاحترام المتبادل، وتعليم مبادئ التعايش مع أتباع الديانات الأخرى. فإذا تجسدت القيم الأخلاقية الجوهرية للأديان كالرحمة، والعدل، والصدق، وصون الكرامة الإنسانية في السلوك الاجتماعي اليومي، تحول التنوع الديني من مصدر توتر محتمل إلى طاقة بناءة، ومن عامل انقسام إلى قوة جامعة.
التحديات والواقع:
على الرغم من الجوانب الإيجابية المتعددة، يواجه التماسك الاجتماعي في ظل التنوع الديني في بنغلاديش تحديات معقدة ومتشابكة. فحالة الاستقطاب السياسي، واتساع الفجوات الاقتصادية، والنزاعات المرتبطة بالأراضي والممتلكات، فضلا عن التأثيرات الإقليمية والدولية، كلها عوامل تجعل من القضايا الدينية في بعض السياقات بؤرا قابلة للاحتقان والتوتر.
وتتفاقم هذه التحديات على نحو خاص حين يتعلق الأمر بأمن الأقليات الدينية وضمان العدالة لها، إذ إن أي تقاعس من الدولة أو المجتمع عن الاضطلاع بدورهما الفاعل في هذا المجال يفضي إلى نشوء أزمة ثقة. وهذه الأزمة، في جوهرها، هي العدو الأخطر للتماسك الاجتماعي، لأنها تقوض الإحساس بالمواطنة المشتركة، وتضعف الإيمان بالعدل والإنصاف.
إن تجاوز هذه التحديات يستلزم رؤية شاملة تقوم على ترسيخ دولة القانون، وتعميق ثقافة المواطنة، وتعزيز التربية على التعددية، وتفعيل دور الإعلام المسؤول، والقيادات الدينية الواعية. وعندئذ فقط يمكن لبنغلاديش أن تحول تنوعها الديني من اختبار عسير إلى رصيد حضاري، ومن واقع معقد إلى فرصة تاريخية لبناء مجتمع متماسك، متوازن، ومتجذر في قيم العدالة والإنسانية.
إن صون التماسك الاجتماعي في ظل التنوع الديني في بنغلاديش يستدعي الارتكاز إلى جملة من المبادئ الجوهرية التي لا غنى عنها. في مقدمتها ترسيخ سيادة القانون وضمان العدالة على أساس المساواة الكاملة، دون اعتبار للانتماء الديني أو الهوياتي. ويلي ذلك بناء وعي تعددي عبر التعليم والثقافة، بما يعزز قبول الاختلاف بوصفه قيمة إنسانية لا تهديدا وجوديا. كما يقتضي الأمر إرساء سلوك مسؤول في وسائل الإعلام والفضاءات الرقمية، يزن الكلمة بميزان الحكمة، ويتحمل تبعات تأثيرها في السلم المجتمعي. أما الدور الرابع، والأكثر حساسية، فيتمثل في تشجيع القيادات الدينية على تبني خطاب إنساني جامع، يقوم على الاحتواء، ويعلي من شأن الكرامة الإنسانية المشتركة.
إن قوة بنغلاديش الحقيقية تتجلى في تنوعها الغني، لغة وثقافة ودينا. وحين يدار هذا التنوع في إطار التماسك الاجتماعي، يتحول إلى مصدر استقرار، ورافعة إنسانية، وأفق للازدهار. فالاختلاف الديني ليس لعنة مقدرة، بل يمكن أن يكون مجالا رحبا للتعلم المتبادل، وبناء التعاطف، وتعميق القيم الإنسانية الجامعة.
والتماسك الاجتماعي ليس حالة تلقائية ولا معطى جاهزا، بل هو ثمرة جهد واع، وشجاعة أخلاقية، ومسؤولية مؤسسية مستمرة. وإن مستقبل بنغلاديش معقود على إدراك هذه الحقيقة الجوهرية: أن الوحدة في قلب التنوع الديني ليست خيارا سياسيا فحسب، بل هي السبيل الوحيد إلى تنمية مستدامة، ومجتمع آمن، وسلام راسخ الجذور.
--------------------------------
بقلم: أحمد شوقي عفيفي
كاتب بنغالي






