في كل دورة انتخابية، يُفترض أن يكون الخطاب السياسي مساحة لعرض الرؤى، ومناقشة الأولويات، وتقديم إجابات - ولو جزئية - عن أسئلة الناس، عرض برامج انتخابية ووعود يفترض أن تتحقق، لكن في المشهد الانتخابي المصري اليوم، يبدو أن هذه المساحة تضيق لصالح مساحة أخرى أكثر صخباً وأقل إنجازاً: مساحة المنصة الرقمية، فلم يعد الخطاب الانتخابي يُصاغ فقط في المقرات أو المؤتمرات، بل يُعاد تشكيله ليصلح للعرض السريع، والتداول، والبقاء داخل دائرة التفاعل والترند، لنشاهد الجملة الأقصر تتقدم على الفكرة الأوضح، والصورة تتفوق على البرنامج، واللقطة التي تُشارك أكثر ولو كانت مضللة، مزيفة؛ تصبح أهم من الموقف الذي يحتاج شرحاً وتوضيحاً، السياسي هنا لا يخاطب ناخباً بقدر ما يخاطب خوارزمية تؤثر على أشخاص كُثر يتحولون لناخبين تحت التأثير الجمعي، سياسي يراقب ما ينتشر، وما يُتجاهل، وما يُكافَأ بالتفاعل، ليعيد ضبط لغته وفقاً لذلك، يتحول الخطاب من محاولة لخلق نقاش عام حول السياسات، إلى محاولة دائمة لضمان الظهور وعدم الاختفاء.
في السياق المصري، حيث تتراجع الثقة في العملية السياسية لدى قطاعات واسعة، يصبح لهذا التحول أثر مضاعف، فحين يُختزل الخطاب الانتخابي في شعارات سريعة أو رسائل مطمئنة بلا مضمون واضح، لا يُعاد إنتاج الحماسة، بل يُعاد إنتاج الفجوة بين السياسة والشارع، نسمع خطابا قويا، لكنه لا يضيف معرفة، ولا يفتح أفقاً، ولا يقدّم للناخب ما يساعده على الاختيار، هذه المنصات لا تفرض الاختزال، لكنها تكافئه، فما يثير الانفعال ينتشر، وما يحتاج تفكيراً يتراجع، ومع الوقت، يتعلم الخطاب السياسي كيف ينجو رقمياً، لا كيف يكون مقنعاً سياسياً، كيف يبقى بمجرد كلمات رنانه.
لتصبح المشكلة في ضعف الرسالة، والمعايير التي تُقاس بها، الجمهور، من جانبه، يبدو حاضراً في التفاعل وغائباً في التأثير إلا فيما ندر، يعلّق، يسخر، يرفض، لكنه نادراً ما يجد خطاباً يعترف بتعقيد واقعه أو يقدّم له خيارات حقيقية للنجاة، تتحول المشاركة السياسية إلى متابعة، زيف يتبعه زيف، والثمن أن الناخب لا يجد خطابا يجيب أسئلته الفعلية، تتراجع رغبته في المشاركة، ويصبح التصويت بلا معنى سياسي، مجرد مشهد تمثيلي؛ بينما يصبح الامتناع، في صورته العامة، احتجاجاً على ما يحدث، وفي صورته المقربة تعبيراً هادئاً عن فشل الخيارات المعروضة عن إرضائه، خاوية المضمون، لا تفتح باباً حقيقياً للاختيار.
مع كل دورة انتخابية يُدار خطابها بمنطق المنصة، تتسع الفجوة بين المشاركة الرقمية المهولة العدد وبين المشاركة الفعلية على أرض الواقع ملايين التعليقات، لكن اقبال وحضور شبة منعدم، يعلو الصوت على الشاشة، لكنه يخفت في لجان الاقتراع، لتخسر السياسة ثقة تراكمية عبر كل دورة يصعب استيعابها طالما تدار الأشياء بهذه الطريقة، "أنتش وإجري"، الخطر ليس في استخدام المنصات، بل في أن تكون هي المعيار الوحيد لنجاح الخطاب، في إغفال الرابط الواقعي بين الناخب والمنتخب، رابط مكون من وعود يلتزم بها الثاني لارضاء الأول ولضمان اختياره بكل قناعة، حين يُقاس الحضور بعدد المشاهدات، لا بقدرة الخطاب على الإقناع أو المحاسبة، تفقد الانتخابات أحد أهم أدوارها: أن تكون لحظة مساءلة سياسية، لا مجرد حدث عابر
السؤال الحقيقي لم يعد: من يملك الحب الأعلى والدعم الأكبر؟ بل تحول إلى: من يملك الشجاعة ليقول ما لا يُكافَأ رقمياً؟
في لحظة انتخابية يُفترض أنها لحظة اختيار ومسؤولية، يبقى الرهان الأكبر على خطاب لا يكتفي بالظهور، بل يستعيد وظيفته الأساسية: أن يشرح، ويقنع، ويُحاسَب… حتى بعد أن يغادر المنصة.
---------------------------
بقلم: إنچي مطاوع






