21 - 12 - 2025

توقيعات علي بوابة الخروج

توقيعات علي بوابة الخروج

رغم أن هذه التفاصيل قُتلت بحثاً ونقاشاً، وأخذت مني جهداً ووقتاً ، في البحث والدراسة والإقناع ، ومنذ أن وقفت شاباً وكتبت مقالاً بعنوان "الوعي المفقود" رداً علي كتيب شيخنا توفيق الحكيم بعنوان "عودة الوعي" الذي ألقي الطين والوسخ علي منجزات الشعب المصري في عهد عبد الناصر، تملقاً وزلفي لعهد جديد، وجد أنه لا مانع من ممارسة هذه "الرياضة" طالما كانت تنتقص من سلفه الشامخ عبد الناصر.

كان موسم ذبح التجربة الناصرية علي أشده، بعد أن تمكن صاحب قرار العبور من مقعده، بعد نصر أسهم سلفه في الإعداد له حتي آخر رمق في حياته، ومن الإنصاف أن يحسب له علي الأقل ثلاثة أرباع هذا النصر، فقد كان هناك مليون شاب علي خطوط النار، كلهم ممن يطلق عليهم "جيل عبد الناصر" ..

ولم يكن هدفي اليوم إعادة نقاش مللت من تكراره، وليست رغبة في تسجيل أهداف إضافية، في مباراة انتهت منذ زمن بعيد، مات اللاعبون والنجوم، وانصرف الجمهور في أغلبه إلي المقابر، أو متاهات الواقع بكل ما له وما عليه ..

لا .. لم يكن ذلك هدفي ، ولا كان هدفي تحفيز غدة الشوفينية، أو إستعادة ماضٍ، والماضي لا يعود حتي لو ارتدينا أزياءه ، واستخدمنا معجماته ..

ولست في هذه العجالة أستدعي المناظرين كي يشحذوا سيوفهم، ويقفزوا فوق خيولهم الخشبية، كي يعلنوا النصر مرة أخري علي جثمان مسجي في مسجد بسيط في كوبري القبه ...

ولكنني رأيت ، وأنا أغلق صفحات الزمن العام في حياتي تحت عنوان "توقيعات الخروج"، أن أضع توقيعات سريعة حول ذلك الزمن الذي عشته وكون ثقافتي وأفكاري، وبنيت منه وعليه مواقفي، وتحملت في كل ذلك ما ارتضيته ثمناً لكلمة أظنها حقاً، بعد أن أراد الله لحكمة اقتضاها ألا يكون توقيعي الأخير في معركة العبور، حيث تمنيت وطمحت، ومد في عمري حتي أسمع وأشهد كل مادار في العالم وفي المحروسة ..

لقد بدأت هذا المقال بأديب عظيم هو توفيق الحكيم، الذي تغيرت علاقتي بأدبه بعد ما قرأت مذهولا ما خطه في "عودة الوعي"، وخاصة بعد أن عدت لقراءة كل ما كتبه وأعجبني من أدب وخاصة  "بنك القلق"، و"السلطان الحائر"، وغيرها ، إلا أنني اكتشفت حقيقته في كتيب آخر لم يلفت نظر أحد بعنوان :"التعادلية"، الذي يلخص موقف الرجل من علاقة المثقف بالسلطة، فهي علي أفضل تقدير إمساك بالعصا من المنتصف.. فعدت لقراءة كل أعماله مرة أخري من هذا المنظور، وأصارحكم القول أنني لم أجد فيه ما شدني إليه في البدايات، وربما هذا ظلم لأدبه، ولكنني جُبلت علي الصراحة ..

ومرة أخري ،أكرر ، لست أكتب هذا استدعاء لخصومة أو تشفياً في أديب هو بدوره في كنف الله وترك توقيعه في سجل الدنيا الفانيه، وغادر... وكنت ولا زلت لا أعتبرها فروسية منازلة خصم بعد أن نزل من علي صهوة فرسه (ولقد ذكرت آنفاً أنني انتقدت كتابه في حياته) .

وقد رأيت وسمعت ، ما يتيح لي أن أقول اليوم في هذا التوقيع قبل الخروج، أن هناك ثنائية لا يمكن غض النظر عنها، وهي "ثنائية المثقف والسلطة"، وهي علاقة تشوبها علائق كثيرة ، فالسلطة - أي سلطة - تحتاج المثقف ، توظفه ، تجنده ، تشتريه ، حتي تستخدمه كواجهة براقة لسياساتها، ولسان يروج لها، ويلهب ظهور المعارضين بسياط كلام أغلبه رخيص ..

ومن ناحية أخري يحتاج المثقف للسلطة كي  تحميه، وتتيح له الذيوع والإنتشار...

ومصر لا تختص حصرياً بهذه الثنائية، فهي سمات نجدها في كل دول العالم تقريبا، ولكن يختلف النوع بإختلاف الدرجة: "درجة الحرية ، ودرجة القيم التي تحكم المثقف" ..

لقد هاجم بعض "المثقفين" تجارباً بأثر رجعي، رغم أن بعض هؤلاء عاشوا وكتبوا واقتاتوا من أنظمة اعتمدت هذه التجارب، بل أنهم كانوا في زمانها من أشد الداعمين المناصرين "بالروح والدم"، وعلي سبيل المثال، بعد أن حل زمن "الإنفتاح" الذي وصفه كاتب مصري محترم أنه "إنفتاح سداح مداح"، هبت عواصف التجريح في سياسات الستينات التي أعتمدت التأميم منهجا في إطار إستراتيجية تنموية، كانوا يشيدون بها.

فلقد كانت مصر مملوكة بالكامل لمصالح أجنبية، وحتي المبادرات المصرية القليلة كانت تخضع لإقتحام أجنبي يزاحمها في الربح، فلقد كانت البنوك كلها أجنبية، وشركات التأمين كلها أجنبية، وحتي شركات بنك مصر مثل مصر للتأمين كانت تزاحم فيها شركة بريطانية بنسبة ٣٧ بالمائة، وشركة البيضا للغزل والنسيج تساهم فيها مجموعة براد فورد، لدرجة أن إقتصادياً شهيراً مثل عبد الجليل العمري قال: "لقد اكتشفت أن مصر كانت بقرة ترعي علي الأرض المصرية، وتعيش علي ناتجها، لكن ضروعها كانت ممتدة تُحلب في الخارج - خارج مصر - في أماكن أخري"، وذهب هذا القول مأثورا محفوظا عبر التاريخ المصري.

من هذه الحقيقة التي يصعب إنكارها، كانت جذور فكرة التأميم، كاتجاه يتيح للمصري أن يصبح مالكاً لأول مرة في التاريخ!.. ويلاحظ أن فترة الستينات قد شهدت نماذج مختلفة لهذه الفكرة حتي في بعض دول الغرب، لعل أشهرها سياسة روزفلت "العهد الجديد"، كذلك أممت بريطانيا البنوك، وفعلت فرنسا نفس الشئ، وغيرها من الدول الغربية، فلقد كانت الستينات عصراً إشتراكياً بامتياز، ومن يقرأ أدبيات تلك الفترة، يلاحظ التوجه الغالب لتحقيق العدالة الإجتماعية ومجتمع الرفاهية وتقريب الفوارق بين الطبقات.

ومن الإنصاف عند مراجعة هذه التجربة المصرية، أن نتذكر إن التخلص من سيطرة الأجنبي علي مفاصل الإقتصاد المصري، كانت في تلك الفترة بحق هي الإستقلال الثاني لمصر، الذي تخلصت فيه من أحقاب ذل الإمتيازات الأجنبية وسطوة المحاسيب والفساد ..

أرجو أن أكون قد وفقت في هذا التوقيع كي أوضح بعض ما رأيته وسمعته في حياتي التي شاء الله أن تمتد كي أكتب هذه السطور..
----------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق


مقالات اخرى للكاتب

توقيعات علي بوابة الخروج