21 - 12 - 2025

رشقة أفكار | بن على هرب.. أم نحن الهاربون؟!

رشقة أفكار | بن على هرب.. أم نحن الهاربون؟!

- أين ذهب ذلك الرجل الذي ظل لبعض الوقت تريندًا أيقونيًا على الشاشات، نذيرًا ومبشرًا بأحلام الإنسان العربي المجهضة في الحياة والحرية والعيش بكرامة إنسانية؟

مشهد "بن على هرب" الذي أذاعته الجزيرة للرجل التونسي - المحامي اليساري والحقوقي عبد الناصر العويني، صُوِّر ليل ١٤ يناير٢٠١١ أثناء فرض حظر التجوال. ردد العويني هتافه بحماس ودون انقطاع: "بن علي هرب، تحيا تونس الحرة، المجد للشهداء، ما عدش نخاف، اتحررنا، يا توانسة اتنفسوا الحرية". صرخاته تلك مازالت تتردد في جنباتنا بقوة.. رغم مضي ١٥ عامًا على إذاعة هذا الفيديو، الذي صوره شباب من بناية في شارع بورقيبة، بعد لحظات من مغادرة بن على تونس إلى السعودية .

كان  الرجل مشعًا بالنور في ذروة إظلام الشارع آنذاك. ظل طيفًا يحتل خيالنا لأيام، فلما أستبدّ بنا حلم مشابه قالوا لنا: مصر ليست تونس ! اليقين الذين تحدثوا به كان خائب الرجاء.. فالحلم اقترب مع اندلاع جمعة الغضب - وكانت موعدًا مع القدر تقترب منا ذكراه بعد شهر أو أكثر قليلًا -، وتداعيات هذا اليوم البديع بكل مشاهده الأثيرة الصلبة المقاومة، التي أشعلت في المصريين - كما اشتعل في التونسيين من قبل ثم من بعد في الليبيين واليمينين - روح الثورة .

لست معنيًا هنا بفشل الثورة الينايرية العظيمة، ولا بالتفكير في أسباب كان يمكن أن تؤدي إلى نجاحها، فتلك وغيرها تهويمات لا أنشغل بالوقوع في أفخاخها.. فلعلها تحتاج  إلى نوستراداموس، بأكثر مما تحتاج إلى البرادعي وعبد الجليل مصطفى وحمدين وعمار والرفاق الآخرين !

- إذن ما الذي انشغل به في ذكري إشعال بوعزيزي للنار في نفسه (١٧ديسمبر٢٠١١)؟

- مالذي انشغل به ونحن على مشارف جمعة الغضب رابع أيام ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ (تحل ذكراها ال١٥ بعد شهر تقريبًا) وقد واكبها اندلاع ثورة لم تخمد، إلا بعد إسقاط رئيس لم يشبع من السلطة رغم استمرار حكمه ٣٠ عامًا؟

- مازال يشغلني بوعزيزي، الشاب الذي فجر حريقا في تونس أدي إلى إسقاط دولة القمع  والفساد. أشعل بوعزيزي النار في نفسه احتجاجاً على سلطة غاشمة لم تتورع عن التسلط حتى على العوام والبسطاء من الناس وبدلا من أن تساعدهم على أكل العيش بكفاح وشرف، فإنها احرقت حياتهم بغضبها المشتعل أبدا من دون حتى  معايير ثابتة! لم يرفض بوعزيزي الأوامر الصادرة إليه أبدًا ولم يناويء السلطة، وكان هدفه لقمة العيش له ولمن يعولهم، لكن الشرطية المتجبرة فادية حمدي لم يعجبها انه سيظل حيا يرزق ويرزق من خلاله من يعيلهم، فقررت ان "يرحل"، ليس من أمام مقر الشرطة التي حاول أن يلوذ بها من جبروتها ويشكو صفعها له، وانما أن يرحل كليًا من الحياة. صفعتها له دفعته إلى إشعال النار في نفسه، وبدلًا من أن يرحل عن دنيانا وحده، رحل زين العابدين عن دست السلطة؟ وأنا أكتب خطر لي أن أعرف جانبًا من حياة فادية! سألت نفسي : أي قلب خلقت به تلك المرأة؟ وأين هي الآن؟ كيف تعيش؟ وكيف تتعايش ومع من تتعامل؟ هل مازالت في الخدمة في سلك الشرطة أم تم تسريحها؟ من الذي يصافحها ويسلم عليها ويجالسها في بلدها؟ هل من عامة الناس؟ أم أن رفقاءها من دائرة الشرطة؟

- كان خيالي ذهب بعيدًا.. حتى أنني فكرت أن اسأل عنها أصدقائي التونسيين.. متصورًا أنها منبوذة! وقبل أن أفعل فكرت أن أقرأ عنها ماتيسر.. باليقين  حسمت أمري وقررت آلا أسأل أحدًا!! لقد برأت المحكمة فادية من تهمة صفع بوعزيزي، وأكثر من هذا تبين لي أن هناك مواطنين شرفاء - كما عندنا - تعاطفوا  معها ونظموا وقتها اعتصامات واحتجاجات على كونها قيد المحاكمة! وتبين خطأ مبارك فعلا، فمصر تشبه تونس والعكس صحيح أيضا.. فقد خرجت من دائرة الاتهام مثلما خرج العشرات عندنا، في مقدمتهم رئيس النظام ووزير داخليته وبعض أدوات السلطة ودوائر الحكم!!

يقينا لم ينس الناس بوعزيزي! لكن من ذا الذي لايزال يضع الورود على قبره؟ هل يفعل ذلك آحد! وهل قبره عليه شاهد ومكتوب عليه اسمه أم أنه غير معروف؟

الشرطية التي صادرت عربة خضروات البوعزيزي لم تصادر حياة بوعزيزي وحده، وانما كانت تحرق كل الأحلام والثروات التي يملكها؟ لكنها حية، وكان عمرها وقت الكارثة ٤٥عاما، وكانت عزباء، واليوم تناهز الستين من عمرها، ولم يعرف عنها سوى أنها ارتدت الحجاب!

كيف يعاملها الناس؟ سؤال (ساذج حتمًا قبل أن اقرأ عنها) لمع في عقلي وأنا آشاهد كل الحالمين الينايريين في عزاء الكاتب والناشر (والينايري) محمد هاشم.. كلهم كانوا هناك.. الزمن غير الزمن.. رغم أن الميدان مايزال هناك على مبعدة اقدام من ذلك  الجامع الأشهر عمر مكرم الذي يقام فيه العزاء.. وكلاهما يضج  بحياة مختلفة وذكريات عاصفة!

أحمد حرارة في عزاء هاشم يثير الألم والدموع.. دموعه الحارة في داخله يكتمها وتكبته.. أسئلة الشرطية التونسية تفجر سؤالاً عن نظرائها عندنا، كيف يعامل الناس القناصة الذين فقأوا عيون الثوار في ميدان التحرير؟ هل يعرف أحمد حرارة ذلك القناص الذي أفقده  نور عينيه؟ شاب طويل عريض قوي البنيان تسحبه من ذراعه آثناء العزاء امرأة سمراء مصرية لعلها زوجته، تهمس له باسم فلان: هذا "زين" وهذا "حمدين' وهذا "دومه".. وهذا وهذا، فلا  يتوقف عن معانقتهم وتقبيلهم، وكلهم على بعد خطوات من المكان الذي كانوا يتعانقون فيه بالهتافات والكلمات عندما اندلعت الثورة الينايرية العظيمة؟ كدت أقوم من مقعدي لأصافح وأعانق حرارة، لكني خشيت ان يكون سلاما عاديا، أطلب فيه عناقًا لعناقيد أمل ضاع، لا يعرف حرارة صاحبه ولا مرتجيه، فسيدةُ تعريفهِ بالناس لاتعرفني وبالتالي لن تستطيع  تقديمي إليه ! هكذا  لن يراني ولا حتى بقلبه!

سلاما على بوعزيزي وعلى حرارة وعلى الميدان الحر الذي تحرر لمدة قصيرة من الزمن ١٨يوما فقط.. كان أولها اندلاع ذلك الشعار الرهيب الذي أطلقه الشباب، فدوي في كل ميدان حيث أخرج المصريين من كل فج عميق: انها تلك الصرخة العزيزة يابو عزيزي: "يا أهالينا انضموا لينا" .

ياالهي ..كم تعلقت بتلك الصرخة منذ أن دوت في شوارع المحروسة (أما زالت  المحروسة محروسة فعلًا؟)

الهتاف الشبابي المصري "يا أهالينا إنضموا لينا" كان ومازال يأسرني، مثلما تأسرني صور وأحداث وشخصيات الحالمين بالمستقبل في الميدان الحر. لاتبرح تلك الصور ولا تلك الشخصيات خيالي. إنهم فتية وفتيات وسيدات ورجال وشباب وشيوخ دفعوا ثمن الحرية وناضلوا من أجلها. أسماء تعد ولا تحصى.. ومهما كانت النتائج فإن الخروج المصري العارم في ٢٠١١ كان أمرًا مذهلا. أقبل التراب الذي سار عليه المصريون ليصلوا إلى تلك اللحظة الفارقة. ما أنبل وأروع من أن تؤمن بفكرة وتحاول أن تنفذها رغم كل الصعوبات التي تعترضها.

كان ممكنًا أن تكون النتائج أفضل من ذلك، لكننا في الحقيقة نعاني كثيرًا من غياب التربية السياسية الصحيحة. من غياب الكوادر القائدة، ومن إنكار الذات والتسامي على الإنقسام. العويني التونسي يرى أن "الثورة  الياسمينية التونسية انحرفت عن مسارها، رفعت شعار شغل - حرية - كرامة وطنية، وهي أمور مرتبطة ببعضها، فلا حرية بدون كرامة وطنية، ولا كرامة وطنية بدون شغل"، ولكنها سقطت في فخ آخر، مثلما سقطت ثورة يناير في حجر الإخوان! الآن "والدة محمد البوعزيزي وشقيقته تعيشان في كندا بعدما حصلتا على لجوء، والسبب التهديدات والشائعات التي لاحقتهما في تونس؛ والمحامي الهاتف (هرمنا) خسر المقهى الذي كان يملكه ولايزال يحلم بالياسمين، وفي مصر بعض من أبرز المشاركين في الثورة حوكموا وسجنوا.. ولا يزال هناك خلاف عارم وتناقض صارخ يقع فيه الكل: هل ٢٥يناير ٢٠١١ ثورة أم عيد للشرطة؟ الحالمون على قلتهم يؤكدون أنها ثورة، والواقعيون يقولون لك: عيد شرطة وثورة على الشرطة! والغاضبون يهربون من إجابة قد تحتاج إلى نوستراداموس أو إلى عراف جديد!
------------------------------------
بقلم: محمود الشربيني

مقالات اخرى للكاتب

رشقة أفكار | بن على هرب.. أم نحن الهاربون؟!