20 - 12 - 2025

في مقام مصر

في مقام مصر

أيتها البهية الرضية السخية الصابرة، يا أم المكان، وأخت الزمان، على كفك ولدت المعاني، وفوق جبينك رسم الناس معالم أحلامهم الغضة، فلم تذبل من جيل إلى جيل، ومن ناظريك امتد خيط النور، ليشق جدران الصمت والظلام والبلاهة، ويبدد حيرة الآدميين وهم يسعون جاهدين على الدروب الوعرة، حتى لانت تحت طواياهم ونواياهم وسجاياهم، التي تأخذهم إلى الأمام.

من ذا الذي بوسعه أن يطفئ شعلتك التي أوقدها زيت المعرفة، ونفخ فيها الله من روحه فتوهجت، فذكرك مرات في كتبه المقدسة، وأهداك أول نبي، وأول استئناس بعد زمن طويل من التيه في الغابات الداغلة، والمفازات المقفرة، والساعات المترنحة فوق عقارب الانتظار والقلق، والأسئلة المفتوحة على الفراغ.

من هذا الذي يمكنه أن يثخن جراحك، ويسلبك اطمئنانك الأبدي إلى بقائك واستوائك وانبساطك، وقبضك على دبيب العافية، الذي قد ينقص لكنه لا يزول، يسرى في أوصالك سريان النيل في ربوعك، والنسيم في ظلالك الوارفة، والدم في عروق أبنائك الكادحين، والحروف فوق أحجارك الخالدة، وأوراق البردي، وألواح الإردواز، وصفحات الكتب، ومقل أطفالك الميامين.

من ذلك البغي الشقي الردي الذي يعطيك ظهره، ولا يمد يده بلا انقطاع، ليأخذ بيدك الطاهرة المجهدة، ويعبر بك دروب المحن، فوق الصخور المسنونة المتجهمة، التي رموها في طريقك لتغلبك، فكانت هامتك تطول، فتصغر كل عقبة كؤود، وتموت كل فتنة في مهدها، ويرتد كل سهم يُرمى إليك إلى نحر من رمى.

أيها اللحن العذب التي يتردد صداه في جنبات الكون، والنخلة الباسقة التي تقف في وجه العاصفة، وسرب اليمام الذي يرفرف فوق النجوم، وحوض الماء الطهور الذي يسقي كل الينابيع، والنبتة العفية التي تنشق بها الرواسي الشامخات، وثغور الرضع التي تضحك للملائكة، والجبين المتهلل دعة ووداعة، والشواطئ المطروحة لبحار من حرير.

يا فجر الضمير، ومهد الحكمة، ومهبط الوعي، والجسر الوسيع الممدود، بلا انقطاع، بين سدرة المنتهى وقاع المجرات، وزاد السفر في رحلة الحياة الطويلة. يا قوس الصيد والفأس والمنجل والترس. يا أيامنا العصية على الذهاب، وساعاتنا التي تجري بين أيدينا، وسنيننا الآتية لا ريب فيها.

يا جدتنا التي لا تشيخ، أكتاف شبابك وسائد لك، وأغانيهم دثارك، وعيونهم الناظرة إليك أبدًا أحلامك الهانئة، التي تتقاسمينها معهم، وضحكاتهم رقصتك التي تهز الأرض مرحًا، ودموعهم حدادك الذي يفرش حزنه على هامات البيوت حتى تستعيدي كل موت بعثًا، وكل رحيل حضورًا صاخبًا يا مصر.
----------------------------------
بقلم: د. عمار علي حسن
(
نقلا عن صفحة الكاتب على موقع فيس بوك)

مقالات اخرى للكاتب

في مقام مصر