20 - 12 - 2025

استدعاء الاستدعاء.. نقد ما جرى للدكتور عمار علي حسن

استدعاء الاستدعاء.. نقد ما جرى للدكتور عمار علي حسن

 لا يكاد يخلو عصرٌ من العصور من وجود علاقة شدِّ وجذبٍ بين الأديب المفكر والسلطة الزمنية، ويخبرنا التاريخُ أن الحاكمَ قد اعتدى على الكثيرين من المفكرين الأحرار، حين وجد في أفكارهم تهديداً لسلطانه، وخروجاً عن أطروحاته الحاكمة وسياساته العامة التي رسمها للشعب الذي يحكمه.

  وحين كتب المفكر والروائي الدكتور عمار علي حسن عبر صفحته الشخصية على الفيسبوك عن استدعائه للمثول أمام نيابة أمن الدولة العليا للتحقيق معه في القضية رقم 10204 لسنة 2025م، والتي اختصمه فيها معالي الفريق وزير النقل بخصوص نشر الدكتور عمار أخباراً كاذبة عن الوزارة مما تسبب في تكبدها مئات الملايين بسبب نشره لتلك الأخبار، توالت ردود الأفعال من جميع محبيه وربما بعض حاسديه عبر تاريخه الفكري والأدبي، يؤيدون موقفه ويتضامنون معه، ومع مرور الساعات زاد عدد المتضامنين حتى جاوزوا القدرة على الحصر، بمواقف حية عبر الاتصالات المتنوعة والحضور الفعلي، وكذا ثبت في يقينهم أن السلطة بهذه الاستدعاء تعتدي على حرية الفكر والرأي.

   لكن الدكتور عمار وهو الأستاذ في العلوم السياسية يدرك كيف يتعامل بحكمة مع مواجهة السلطة، فهو مفكر عضوي ذو نشاط ثقافي بارز في محيطه، وله تأثير واسع عبر مواقفه المعروفة للجميع، وزهده وترفعه عن كل ما يسلبه قيمته الكبرى، فلم يبحث يوماً عن منصب أو مكانة سياسية، ولم يهادن السلطة بمبادئه يوماً، كما أنه لم يخرج عليها هذا الخروج المخل بالشرعية والذي يهدم ولا يبني، بل كان حكيماً في تعاطيه مع السلطة.

ولكن علينا أن نحلل هذا الاستدعاء لنقف على كنهه ونحاول فهم معانيه الظاهرة والخفية.

فأولاً: في عصر الفضائيات المفتوحة والانترنت والفيسبوك وتويتر وغيرها يصعب إخفاء أي حدث مهما كان دقيقاً أو صغيراً. ويمكننا معرفة ما يدور خلف الكواليس.

ثانياً: صار باستطاعة الناس - الجماهير - الشعب - الناخبين - قوى الشعب - الأمة، أن تعبر عن رأيها ويصل رأيها للسلطة مباشرة، دون الحاجة إلى مراقبين ومحللين، والناس وخاصة في بلادي لا تستطيع كتمان مشاعرها وتوجهاتها الحقيقية.

ثالثاً: كان الأستاذ القدير نجيب محفوظ يؤكد في روايته الخالدة" أولاد حارتنا" أن آفة حارتنا النسيان، وهو إذ يؤكد على تلك الآفة التي كان يخشاها إنما كان ينهانا في الرواية عن النسيان، فإني أبعث إليه في مرقده عبر هذه المقالة لأؤكد له أن حارتنا تجاوزت هذه الآفة وقد تقدمت وسائط تكنولوجية عديدة تستطيع حفظ كافة الأحداث التي تجري في كل أركان العالم على جهاز صغير جدا يوضع في الجيب، ويتمُّ استدعاءُ كل المعلومات ببساطة ويسر وسهولة.

رابعاً: إن السلطة الحالية مشغولة ببناء جمهورية جديدة، وهي إذ تبني مدناً جديدة، وترتقي بكافة مناحي الحياة المعاصرة فإنها لم تهمل الماضي، بل كنا نحتفل في الأول من نوفمبر مع العالم كله بافتتاح المتحف المصري الكبير، ونفخر بما به وبما حواه من نفائس عظيمة، فكيف لهذه السلطة أن تستدعي كاتباً في قيمة عمار علي حسن للتحقيق معه في قضية يختصمه فيها وزير بحجم الفريق كامل الوزير، متهماً إياه بالتسبب في خسارة الوزارة ملايين الجنيهات!

خامسا: تأكدت السلطة وتأكد الكاتب الروائي الكبير أن الحياة هي الناس، وأن الناس حين تجتمع على شيء تحميه وتقويه، وتزيده قوة وعطاءً، وهذا ثبت لكل ذي بصر وبصيرة من التضامن الواسع مع الدكتور عمار تجاه هذه التحقيقات.

سادساً: يمثل هذا الاستدعاء خطورة شديدة على السلطة الحالية، فنحن لا ننظر للسلطة باعتبارها مجرد مجموعة أفراد يديرون الوقت، ويسهرون على تدبير معايش وشئون وتصريف أمور الشعب، بل يجب علينا- وهكذا يجب أن تكون – قاطرة عبور بالشعب المصري لتحقيق أمرين هامين: - الأول: هو العبور إلى المستقبل الذي يحاكي ما صنعه أجدادنا وخاصة في عصر بناة الأهرامات. والأمر الآخر: هو العبور بالمصريين من كونهم شعباً إلى صيرورتهم الضرورية أن يصيروا أمة. فالشعوب لا تصنع حضارة بل مجرد استمرارية، أما الأمم فهي التي تمتلك ثروات ضخمة تصنع بها حضارة تبقى حقباً طويلة في التاريخ الإنساني الممتد.

لذا ننظر إلى هذا الاستدعاء بوصفه خروجاً وانتهاكاً للأسس الإستراتيجية التي يتبناها فخامة رئيس الجمهورية؛ لتتبوأ مصر مكانتها ليس في المنطقة فحسب بل في العالم كله.

سابعاً: ننظر نحن الأدباء والمفكرين والأكاديميين لهذا الاستدعاء بأنه تعطيل ممنهج لمسيرة البناء الفكري للإنسان المعاصر، وقد امتلأت الصحائف القديمة والحديثة بل والمعاصرة بالحديث حول الحريات، ومنع القمع، وقد أكد ألبرت هيرمان أينشتاين العالم الفيزيائي الأشهر أن الخيال أهم من المعرفة؛ فالمعرفة منتهية ومحدودة، أما الخيال فهو الذي يقود للمستقبل، ولو لم يفكر عباس بن فرناس وأمثاله في الطيران ربما تأخرت البشرية أكثر، وقل مثل هذا في كافة مناحي التطور الهائل في المجتمعات.

ثامناً: حين يقترب الإنسان البسيط من عمار علي حسن يجده جالساً مع الأصدقاء على المقهى يحتسي المشروبات الساخنة ويقول النكتة ويروي الفكاهة، ويعطي المعلومة الماتعة، ويستمع للجميع بوصفهم زملاء في حين يكون أغلبهم تلاميذ على علومه ومعارفه وإبداعه، فالرجل جد بسيط بساطة العوام، ولكنه ممتلئ بالخير والعلم والإبداع، ويحمل في داخله إرث الفلاح المصري عبر القرون الطويلة الضاربة في التاريخ، وما رواية ملحمة المطاريد ببعيدة عن هذا كله.

وإني أوجه سؤالاً للسلطات التي تجرأت على استدعاء هذه الحالة الفكرية والإنسانية العميقة التي تتمثل في كينونة عمار علي حسن، كيف غاب عنها قيمة الرجل الفكرية والإنسانية؟

وكيف غاب عنها أن عمار علي حسن وزملاءه المفكرين والمبدعين يمثلون دون المستكشف لربان السفينة؟ وأنه باستدعائهم ومثولهم أمام جهات التحقيق قد يعرقلون مسيرة عطائهم الفكرية والإبداعية؟

 وقد أكدَّ الرئيسُ في مناسبات كثيرة أن مصرَ ستعبرُ إلى مستقبلٍ جديدٍ، وكيف يكون المستقبل جديداً دون أن نسافر إليه بأذهانٍ متقدةٍ وخيالٍ منفتحٍ، وإبداع عظيم؟

إني عاتبٌ على السلطة، وأعلم أنها لن تعاود هذه الأمور.

 وأوجه رسالة للأديب المفكر الدكتور الألمعي عمار علي حسن، وأؤكد لسيادته أن عطاءه موفور، وأن سنوات عمره كانت زراعة أتت ثمارها في عقول وأفئدة كل من اتصل به أو بفكره أو إبداعه، وأنه على الصعيد الإنساني رجلٌ وإنسانٌ قلما تجود به الأيام.

كن قرير العين مطمئن النفس؛ لتزداد إشراقاً بإبداعك في غياهب تلك الحياة، فدورك مثل قدرك إشعال الضياء لتبديد الظلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بقلم: د. علاء الدين سعد جاويش
* روائي وناقد أدبي

مقالات اخرى للكاتب

استدعاء الاستدعاء.. نقد ما جرى للدكتور عمار علي حسن