-.. لا .. بل "يخصنا ونص وتلات اربع" كما يقول العوام في حسم وثقة، يؤكدان خطأ زاوية النظر التي ننظر منها للموضوع !
يخصنا ونص وتلات أربع لأنهُ معني بقيم وطنية تخضبت بالدم.. أم أن الدم عندنا صار ماء؟
لو سمح كلٌ منا لنفسه بإهدار التاريخ الموشى بقصب الكفاح، منذ عصر المصريين القدماء، وصولا إلى العصر الحديث وفيه أريقت الدماء الذكية على ترابنا الوطني، حيث واجهوا كل عدوان بصدور عارية، وفي مقدمته عدوان على الحياة، تجسدت شراسته وعهره في إماتة بل قتل المصريين، لدى تسخيرهم في حفر قناة السويس.
تاريخيًا ..بدأت الشركة العالمية لقناة السويس البحرية حفر القناة في أبريل 1859 واستمر لمدة 10 سنوات واستخدم في ذلك نحو مئات الألاف من الفلاحين المصريين بنظام السخرة واستمر ذلك النظام حتى عام 1864، تقدر بعض المصادر انه قد توفي نتيجة لهذا النظام حوالي ١٢٠ الف مصري، عملوا في ظروف أقل ما يمكن أن توصف به أنها مأساوية!
- وتقول المصادر و المراجع: أصيب آلاف العمال في ساحات الحفر بالرمد، بخاصة في شتاء 1863-1864، نتيجة التعرض للبرودة الشديدة ليلا بعد الحرارة العنيفة نهارا، والتعرض لشدة أشعة الشمس المحرقة، وتأثيرها على شبكية العين، ولم توفر شركة القناة للعمال سوى منشآت للنوم!
سخرة.. وعدوان.. وإيلام وتعذيب.. وقهر على الحفر من دون طعام أو شراب أو مال أو حتى عناية طبية أو راحة إنسانية أو تقدير للجهود المبذولة من مئات الآلاف من المنكوبين الذين لاحقتهم السياط تدمي ظهورهم وضربات الشمس اللاهبة تحرق رؤوسهم وتحصد أرواحهم، إذا لم تحترم تاريخ قهرك، فأنت تهدر قيمة نفسك اولاً.. وتهدر قيمة الأمة ثانيًا، ولا تدّعْ للفخار الوطني طريقًا يتسلل إلى عقول أبنائك، وها أنت تهزمهم - وتهزم نفسك قبلهم - غدًا ببساطة ومن دون قتال.. تكفي في ذلك - لو تذكرت احمد فؤاد نجم والشيخ إمام - زقة ترباس!
(زقوا الترباس / حاحا / هربوا الحراس / حاحا / دخلوا الخواجات /شفطوا اللبنات // والبقرة تنادي /حاحا / وتقول ياولادي /حاحا / وولاد الشوم / حاحا / رايحين في النوم /حاحا / البقرة انقهرت / حاحا / وقعت في البير …. )
لاتقل لي إن "هذا الكلام الكبير والمصطلحات الرنانة" لاجدوى منها، فسأسألك فورًا لماذا تنتفض غاضبًا وتتضايق حينما يحاول الآخرون تقزيمك عمدًا، وتجاهل عراقة حضارتك؟! فإذا انشأت متحفًا يبرز عراقتها وخلودها، ظهر لك من يصور قطعة حجر في الصحراء على أنها "أثر"قديم - ناقص يقولنا ده أثر النبي!- ينبيء عن حضارة عمرها آلاف السنين! لماذا تنتفض ساعتها ضد هذا التزييف الصارخ، الذي لم يوجّه إلا إليك، ولم يكن سببه إلا حضورك الحي الزاهي، ساعيًا بتلالٍ من الدولارات والريالات ليصنع تاريخًا مزورًا لنفسه، وهو يعلم أنه مزيف، لكن فلسفة القائد النازي - اكذب واكذب واكذب حتى يصدقك الناس - لا تزال تعمل بكفاءة وتؤتي ثمارها! أم أنك أصلا لاتعبأ بشيء، حتى بمن يحاولون تقزيم بلدك وتصغيره.. ويريدونه ان يُصَعِرْ خديه لكل من هب ودب؟
المعتوهون الذين كالحمار يحمل أسفارًا، ممن يقرأون التاريخ بالمقلوب، فأصبح - "سبس" وهو اختصار البورسعيدية لاسم اللص فرديناند ديليسبس - بطلا قوميا في عيونهم، يروجون له كبطل منقذ، فهو من انشأ بورسعيد كمدينة عالمية، وحفر قناة السويس أعظم ممر مائى دولي في العالم حتى اليوم، وبالتالي يجب ان يحبوه ويوقروه، بل ويحتفلون بعيد ميلاده - كصديق لهم ومن بقية عيلتهم بقى!- ويطالبون فوق هذا كله بأن يرد له اعتباره، فيعاد نصب تمثاله أمام مدخل القناة، في إهالة للتراب على كل هؤلاء الحالمين بالحياة وبالكرامة.. الذين كانوا لحظة تأميم عبد الناصر العظيم لقناة السويس في حالة من الزهو الإنساني والكبرياء البشري، بسبب هذا القرار الذي أعاد الحقوق المسلوبة للشعب المصري، وعلى إثره قاموا قومة رجل واحد فأزالوا التمثال من مكانه ورموه في المتحف يأكله الزمن، وليتهم حطموه وتخلصوا منه فلا يأتي أحد من معاتيه ومهاويس "سبس" اليوم فيطالب بأن يعتبر اللص ناهب الثروات بطلًا قوميًا بورسعيديًا على الأقل!
قيامة بورسعيد ستقوم في أي لحظة ضدهم، طال الزمان أم قصر.. لأن تضحيات الدم لايمكن محوها بأستيكة. عار ان نرى في زماننا الحديث هذا بعض هذا النفر - ليتهم كانوا ضمن المسخرين للحفر كنا تخلصنا منهم - يُدْعَون إلى محافل وأماكن ومناسبات يظهرون فيها بحللهم الشيك والكرافتات أوالبابيونات، لكي يطالبوا بإعادة تمثال اللص "سبس" إلى الحياة ممجدًا ومختالًا فخورًا!!
مجرد أنفار لا يشغلهم أمر إعمار بورسعيد بالأفكار أو التنوير او الوعي، أو يتذكرون الشهداء الذين سقطوا وهم يحفرون في الأرض بأظافرهم بل وبأرواحهم، ليشقوا طريقًا لأهل مصر نحو المستقبل. يهتمون بعودة تمثال الخائن اللص، ولم يفكروا في تكريم أبناء مدن القناة البواسل، حمودة وسيد عسران.. الكابتن غزالي وفرقته، وغيرهم ممن داست دبابات المحتل على أجسادهم فمزقتهم أشلاء.. وانشغلوا فقط برد الاعتبار وإعادة تمثال معبودهم إلى مكانه.. وكأن القناة ملكًا له، بل وكأنه هو الذي وهب المصريين القناة!
أمم عبد الناصر "الكنال" عام ٥٦.. وقرر بعد أربعة سنوات تقريبا البدء في إنشاء السد العالي، وقال وقال معه المصريون "هنبني السد ولو بالمقاطف"…
العمل في السد - وهو أعظم مشروع هندسي في القرن العشرين - استغرق نفس فترة حفر القناة تقريبًا.. عشر سنوات كاملة.. لكن شتان مابين المشروعين.. حلم قناة السويس الذي أفسدوه - من حيث تسخير المصريين وقتلهم بلا رحمة أثناء الحفر - وحلم بناء السد العالي.
طبقا لما نشرته صحف مصرية عن تلك الفترة، فإنه شتان بين معاملة المصريين في المشروعين، حتى ان شاعرًا كالأبنودي العظيم وأمام تلك الحالة الوطنية العارمة وغير المسبوقة، حمل معه جهاز تسجيل ليسجل مشاعر العمال والفلاحين والمهندسين المشاركين في المشروع.
آلاف المصريين المشاركين جسدوا ملحمة وطنية بتضحياتهم الجبارة في ظروف صعبة، مثل حوادث التفجير وتساقط الصخور التي أدت إلى وفاة عمال ولكنها لم تفت في عزيمة الرجال.. وهؤلاء كرمهم الوطن وسموا بـ"شهداء السد العالي". لم يكن العمل في السد بالسخرة، بل كان من أجل الوطن، بعكس ما جرى أثناء حفر القناة مما أشعل الروح المعنوية.
من أي أرض جئتم؟ من أي معين ملوث شربتم؟ من أين لكم هذا الدنس؟ تحتفلون بعيد ميلاد ديليسبس؟! فبأي عين تواجهون من هجروا من بورسعيد والقناة كلها بعد عدوان يونيو ٦٧؟ أليس لكم أحباب ضربوا بالرصاص والقنابل والنابالم أثناء العدوان الثلاثي عام ٥٦؟ أليس في بيت أيٍ منكم شهيد، ونحن الذين نفاخر بأن في بيت كل مصري شهيد سقط دفاعًا عن مصر وترابها الشريف؟
من أنتم يا "بتوع سبس"؟ من أي داهية حللتم علينا؟ تحتفلون بعيد ميلاد ديليسبس، على أشلاء الضحايا ممن حفروا القناة، والشهداء الذين شيدوا مع الأحياء ملحمة السد العالي؟
بعد أن قرأتم دعوني أسال: الموضوع يخصنا أم لا؟
____________________
بقلم: محمود الشربيني






