أيام قليلة و نستقبل عامًا جديدًا كما يُستقبل ضيفٌ عزيز، بقلوبٍ أنهكها الطريق لكنها ما زالت قادرة على الأمل، نفتح له الأبواب مرحِّبين، لا لأننا نثق أن كل ما فيه سيكون جميلًا، بل لأننا نؤمن أن كل بداية تحمل فرصة، وأن الله لا يضعنا على أعتاب زمنٍ جديد عبثًا. نرحّب بالعام القادم بتمنٍّ صادق أن ينال كل إنسان فيه ما يتمنى، بقدر سعيه، ووفق قناعاته، وبما يشبه روحه لا بما يُرهقه أو يُشبه غيره.
و نقف في نهاية العام كما يقف المسافر على رصيف القطار، حقيبته مثقلة بما لا يُرى: خيبات، محاولات ناقصة، ضحكات لم تكتمل، وأحلام تأجلت أكثر مما ينبغي.
فالسنوات لا تمر عبثًا، وكل ما عبر بنا ترك في الروح أثرًا، مهما حاولنا إنكاره، فنحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلًا كما قال الشاعر محمود درويش وفي نهاية العام ندرك أن حبّ الحياة لا يعني غياب الألم، بل القدرة على الاستمرار رغم حضوره.
ديسمبر ليس مجرد شهر، بل مرآة كبيرة نُجبر فيها على النظر إلى أنفسنا بصدقٍ لا يحتمل التزييف ، نقف على حافته، نبتسم لسنة راحلة، لا لأنّها كانت سهلة، بل لأنّها انتهت… والانتهاء في ذاته نعمة.
و في وداع العام، نتعلم أن بعض الأشياء لم تكن خسارة، بل كانت درسًا ، وأن بعض الوجوه التي غادرت لم ترحل ظلمًا، بل رحمة فهناك من أساء إلينا، لا لأننا نستحق الأذى، بل لأنهم لم يعرفوا غيره، وهنا يكون التسامح فعل قوة لا ضعفا،.. اختيارًا للسلام لا استسلامًا للنسيان ، نتعلم أن ننسى حين يكون النسيان شفاء، وأن نتجاوز حين يكون الوقوف وجعًا مستمرًا ، ونتعلم أن بعض الخسارات لم تكن نهاية، بل بداية وعيٍ جديد بأننا لا نملك أحدًا، ولا يملكنا أحد، وأن التعلق المفرط بالأشخاص والأحداث هو أقصر طريق للخذلان.
ومع مطلع العام الجديد، نعيد ترتيب قلوبنا قبل دفاترنا، ونُنقّي أرواحنا قبل خططنا، ونتخفف من أثقال التوقعات، ونتوقف عن العيش في حالة انتظار .. انتظار اعتذار قد لا يأتي، أو عودة ربما لم تكن خيرًا، أو فرصة نؤجل الحياة من أجلها.
فالحقيقة البسيطة التي نتعلمها متأخرين: لا أحد يعيش بدلا من أحد، ولا أحد يتألم بدلا من أحد، ولا أحد يُحاسَب نيابةً عن أحد ، ولكلٍّ منا رحلته، وخطوته، ونصيبه من التعب والاختيار.
مع نهاية عام وبداية أخر يجب أن تتعلم أن تكون قويًا، حتى على نفسك، بأن تمنعها من الغرق في الندم، وأن تُمسك بيدها حين تميل للانكسار ، أن تُربّي داخلك شجاعة البدء من جديد، حتى وأنت مرهق وأن تعرف متى تُغلق الأبواب دون ضجيج، ومتى تفتح النوافذ للضوء دون خوف، القوة ليست في القسوة، بل في الوعي؛ وعي بأنك تستحق حياة لا تُؤجَّل، وفرحًا لا يُستأذن، وكما قال الفيلسوف جان بول سارتر: «الإنسان محكوم عليه بالحرية»، أي أنه مسؤول عن اختياراته، عن سعادته، وعن قراره بالاستمرار أو التوقف فالحياة لا تُمنَح لمن ينتظر، بل لمن يجرؤ على العيش.
وفي نهاية العام، لا تكتمل الحكاية دون الوقوف بخشوع أمام من رحلوا عن عالمنا وبقوا في قلوبنا. ننعى أولئك الذين غيّبهم الموت، فتركوا فراغًا لا يملؤه الزمن، وذكرياتٍ لا يطفئها الغياب، ننعى وجوهًا كانت جزءًا من تفاصيل أيامنا، وأرواحًا علمتنا الحب، أو الصبر، أو حتى الألم.
رحلوا بأجسادهم، لكن أثرهم ما زال حيًا فينا، في كلمة قالوها، أو موقف ترك بصمته، أو دعاء ما زلنا نردده لهم في الخفاء وكما قال الشاعر:
«يموت منّا الجسد لكن الأرواح لا تموت إذا سكنت قلوب من أحبّوها».
ويجب أن نستقبل السنة الجديدة ونحن نعلم أنها لا تأتي محمّلة بالمعجزات، لكنها تحمل فرصة صادقة: أن نعيش أكثر ونؤجل أقل، أن نُحب بصدق دون أن نُفني أنفسنا، وأن نمنح أحلامنا حجمًا يناسب قدرتنا لا قدرتها علينا، و أن نسرق من الأيام لحظات سعادة صغيرة قبل أن تسرقنا الأيام.. ضحكة عابرة، فنجان قهوة في صباح هادئ، كلمة طيبة في وقتها، طمأنينة نشعر بها ونحن ننام دون ثقل في الصدر، تلك أشياء لا تُكتب في قوائم الأهداف، لكنها تصنع الحياة.
فلنجعل العام الراحل نهاية لكل قصة مؤلمة لم تُشفَ، ونقطة توقف لكل ما استنزف أرواحنا، ولنجعل القادم بداية لعوضٍ جميل، لا يشبه ما فقدناه، بل يُرضي قلوبنا بطريقة أعمق، هذا العامٌ الجديد لا نطلب منه الكمال، بل نطلب منه الصدق… صدق المحاولة، وصدق التمني، وصدق أن نكون نحن، كما نحن، دون انتظار، دون خوف، ودون اعتذار عن حقّنا في حياة تشبهنا.
-------------------------------
بقلم: سحر الببلاوي






