ربما باتت الرواية من جهة كونها ساحة واسعة للإبداع شبيهة بلعبة كرة القدم تتنوع في أساليبها وتكتيكاتها ومدارسها ومهارة اللاعبين فيها، وربما انطبق هذا على جمهور الرواية كذلك فهم كالمتفرجين الجالسين على مدرجات الملاعب أو المتسمرين أمام شاشات التلفاز، يختلف تفاعلهم وتختلف نظراتهم وتختلف زاوية النظر عند كل واحد منهم.
وهذه المقدمة تقودني وتقود كثيرين من قراء الرواية إلى سؤال مفاده: هل باتت الرواية لسعة مساحتها ميداناً رحباً تستطيع من خلاله طرح ما تشاء من أفكار ومعتقدات وقناعات وخبرات وملاحظات قد يدركها البعض منا، وقد تغيب عن بعضنا الآخر ناهيك عن تنوع موضوعاتها التي يبرع مؤلفوها من خلال فن السرد إحكام بنائها وتقوية أسسها لتجذب القارئين على اختلاف ثقافاتهم ومشاربهم؟
التقفيصة رائعة الكاتب والشاعر والصحفي اللامع محمود سلطان رواية من النوع الفكري تعري وتفضح وتروي وتوثق وتجمع بين الواضح المعلن وبين الآخر المسكوت عنه، تحرضك تارة وتتلاعب بمشاعرك تارة أخرى.
لا ينفك كاتبها عن جعلك تلاحق ما فيها، لأنه لم يثقلها بالوصف الذي يحلو للبعض من كاتبي الروايات أن يظهروا براعتهم اللغوية والبلاغية من خلاله، بل جاءت منسابة كجدول ماء متدفق تعيد تأسيس حكاية مجتمع من خلال شخصية بطلها ((ممدوح)) وما مر به هو وعائلته التي تجد أحداث الرواية قد غطتها بشكل مشاكس غير مهادن ولا مداهن، يُظهِرُ مؤلفها من خلالها عورات البعض ممن علت أسماؤهم وتحلق الناس من حولهم.
يستثيرك لتفكر كيف لمجتمع يعتاش على النفاق والكذب أن ينتصر؟ كيف لمجتمع مكبوت وفق تابوهات وبروباجندات أن يتطلع إلى المستقبل، وهو القابع في مستنقعات الوهم والخرافة والكبت الجنسي وعقدة الطبقية وتفاهات السياسة المقدسة وكثرة أصنامها المعبودين؟
كيف للشخص أن يكون متزناً ومتوازناً لا تحكمه عقده وسط كل ذلك؟
كيف لمجتمع يصنع أصنامه التي يعبدها ويقدسها أن يلجأ للحقيقة كمنقذ وحيد ينتشله مما يحيط به؟
كيف للسياسة التي تتغير بتغير الزعماء أن تصنع نظرياتها التي تخدم الوطن والمواطن معاً؟
لا أن تكون سياسة تنطلق بسرعة الضوء من خطابات الثورية إلى استخدام الراقصات لجذب انتباه سياسيي العالم المتصارع حتى يمتدح فيها رئيسٌ راقصةً ما بأنها جمعت بين معسكرين متضادين برقصها؟!!!
وكيف يمكن أن يعيش المواطن تحت ظل دولته آمناً مطمئناً، ولا يسعى صاحب القرار فيها أو المتنفذ أو المواطن بنوعيه الذي فهم ما يجري والذي لم يفهم بعد، أن لا يعمل وفق مبدأ ((لو خرب بيت أبوك خدلك منه قالب))؟ المثل الشعبي الذي وظفه محمود سلطان بذكاء في روايته للتعبير عن واقع حالٍ مزرٍ يثير الاشمئزاز والقرف واللامبالاة أكثر مما يدفع الناس للاعتزاز بالهوية وما تقتضيه؟
التقفيصة بعنوانها الذي يرمز لذكرى أو يرمز لشيءٍ أراده المؤلف أن يكون نقطة انطلاق لسبر الأحداث التي تغطي مدة زمنية طويلة نسبياً في أعمارنا القصيرة، ولكنها قصيرة جداً في عمر الزمن نفسه، مدة تتسارع فيها الأحداث لتتلاحق وتتلاقح وينبثق عنها واقعٌ مرٌّ يسكنه الحزن والوجع.
واقع يدركه البعض ويستشرفونه مبكراً، ويسير البعض الآخر مع القطيع خائفين مذعنين، وربما غير مدركين بل هم كذلك، لكنهم يركضون وراء لقمة العيش التي أذلت الكثيرين منهم وصنفتهم وفق تابوهات محددة لا يدركها ثأر البطل الذي قرن فكرة ثأره بناحية لا أظنها تعكس شيئاً إلا شيئاً واحداً تأصل في تفكير مجتمعاتنا دون أن تعلم أن هذا الأمر لا يُدركُ ثأراً ولن يدركه مهما طال الزمن!
وعندما يتنقل القارئ بين فصول الرواية وتستحث تفكيره وخطاه ليرى نهاية أحداثها يتركك المؤلف ببراعة أمام نهاية مفتوحة بعد حدث فجائعي من صنف الواضح والمسكوت عنه معاً لتسرح أفكارنا نحن القراء قريباً أو بعيداً مما أراده مؤلف هذه الرواية.
كل ما سبق انطباعاتُ قارئ لأنني لست ناقداً متخصصاً، وقد أخذت على الرواية مأخذاً واحداً فقط أن مؤلفها استخدم مصطلحات يعرفها المصريون وقد تغيب عنا نحن القارئين من البلدان العربية الأخرى مهما علت براعتنا في فهم اللهجة المصرية التي ألفناها من خلال السينما والمسرح والمسلسلات المصرية، وربما يتدارك المؤلف هذا في طبعات قادمات بوضع هوامش تعريفية، وإن كان ذلك لا ينقص من أهمية التقفيصة السردية أو الفكرية، أو يقلل من متعة قراءتها.
خلاصة ما تقدم أن التقفيصة رواية فكرية سردية مشاكسة عكست شخصية مؤلفها الصحفي أو الجورنالجي كما يحلو له أن يسمي نفسه، وربما كانت من صنف الروايات التي تلقي بحجر في بحيرة غير هادئة.
لكن سؤالاً أخيراً يراودني ويلح عليَّ أن أختم مقالي هذا به : هل تستطيع رواية تثير الأسئلة وتحرض على التفكير أن تعيش طويلاً في زمن تساق فيه الشعوب وفق بروباجندات معدة لإشاعة التفاهة وخدمة مشاريع الاستهلاك وإبعاد الأفكار والايدلوجيات عن واقع الأجيال الحالية والقادمة إلى أجل غير مسمى؟
-------------------------------
بقلم: أحمد الشادي
* كاتب وشاعر عراقي







