18 - 12 - 2025

رشقة أفكار | درس الرجل الذي مات !

رشقة أفكار | درس الرجل الذي مات !

في الحياة دروس لاتنسي. نقول أننا اصبحنا نملك ذاكرة السمك.. لكن درس الرجل الذي مات يقينا يقول لا ! "بنتريق"على نفسنا ..فشعبنا هو الإمام في السخرية.. ننسى بمزاجنا ونتذكر بمزاجنا.. ونتجاهل أو نهتم أو نشكر أو نش(kh)ر حتى بمزاجنا. المصريون يفعلون كل شيء بمزاجهم.. بإرادتهم الحرة و لو كانوا "مقيدين" .. حتى في  ممارسة القهر.. يتبادلونه مع الحياة .. مع أنفسهم.. ومع السلطة.. وربما هذا مايسميه  الباحثون عن تفسير بالـ "تكيف"•  

أحد زملائنا مثلا دعا إلى نسيان أبشع المذابح التي إستقر وجعها وألمها ونزيفها في الضمير.. مذبحة البقر .. تجاهل الناس دعوته.. حتى المطبلين والزمارين والمطبعين.. لم يستخدموها في قاموسهم ولم يروجوا لها. أماتوا كلماته وأشبعوها موتًا!

إحدى كاتباتنا دعت ضمنا إلى نسيان هذا الرجل الذي ظلم "الطفلة الصغيرة"! لم يستجب أحد لا لهذه ولا لذاك.. ففي ليلة عارمة بالمحبة والتقدير احتشدوا في جامع عمر مكرم ليودعوه بوضوح وبصراحة وعلنا.. قالوا له نحن نحبك ونقدرك ونتذكرك ولن ننساك.. رغم كل ماقيل عنك وفيك! انه درس شعبنا.. ودرس الرجل الذي كان موته مذكرًا لنا به.

جمال عبد الناصر لم ينسه المصريون، حتى الرؤساء لا ينسونه عندما يقارنون أنفسهم به. قبل ساعات نقلت الأنباء صورة لعبد الناصر تتصدر لوحة الاعلان الرئيسية في  احد الاستادات الإفريقية، تقديرًا وعرفانا لدوره في تحرير أفريقيا من الاستعمار. بعضنا هنا يهيل التراب على ناصر جهلا وعتهًا وظلمًا.. مع أن هؤلاء يعيشون أتعس الأيام، غلاء وإذلالًا وبيعًا وقلة قيمة، بعد ما كانوا موضع حفاوة العالم.. يسألونك باعتزاز: إنت من بلد عبد الناصر؟ سمعنا هذا ممن هم أكبر منا ونقلوه إلينا وعندما نقارن ما قام به، على ضوء حريات فقدناها وسلطة أمعنت في المثقفين والمفكرين والمناضلين أصابعها المغموسة بالقوة والقهر.. مع ماتحقق لمصر في مقابل ذلك، كنا ندرك أن مايفعله عبد الناصر كان عن قناعة منه.. وإن اختلفنا معها بعمق.. إيمانه بالديمقراطية الاجتماعية كان أكبر بكثير من إيمانه بالديمقراطية السياسية. عجبًا لم نسمع العاديين يتحدثون عن التعذيب والاعتقالات والسجون، وانما نسمعهم يتحدثون عن المدرسة والكلية والجامعة وابنهم الطبيب وابنتهم المهندسة.. التعليم المجاني والعلاج والكهرباء.. السد العالي والألف مصنع الخ.

لاينسى الناس كيف كان وداع عبد الناصر.. ولا كيف قتل السادات في لحظة غضب عارمة جعلت الغالبية العظمي لايأسفون على رحيله ويسخرون من وصفه كـ "بطل الحرب والسلام"! ولا ينسى الناس أن مبارك رغم كل ما وجه اليه من انتقادات - كسلطة شاخت في مقاعدها بتعبير للأستاذ هيكل، والجمود الذي أوقف نمو وحراك المجتمع المصري في العقد الأخير من حكمه - لم يحملهم فوق طاقتهم وقدرتهم على الاحتمال في قوتهم الضروري ومستلزمات الحياة العادية من ملبس ومواصلات وعلاج. تلك حقائق الأمور.. لذلك لن ينسى الناس ما لا ينسى أبدًا.

الذين يسمعون عمر كمال وحمو بيكا وحتى محمد رمضان من باب قضاء الوقت.. أي وقت.. وربما تجد رجالًا ونساء.. فلاحين وعمالا أو من كريمة المجتمع، يرقصون على إيقاع أغانيهم.. ومع هذا فإن حياتهم اليومية العادية حافلة بأم كلثوم (وعبد الوهاب وحليم وفريد ونجاة وشادية وفايزة إلى آخره.) مازالوا يتذكرونها ويسمعونها.. الست العظيمة البديعة.. ساكنة وجدان المصريين.. قيل في أم كلثوم العِبرْ.. لم يعبأ الناس بما قيل ويقال الآن، بمناسبة فيلم الست الذي يعرض حاليًا، حيث ظهرت أم كلثوم بالسيجارة.. وهي تختلف على المال والميراث مع آسرتها.. وهي تتحدث بلغة غير مألوفة منها. الخ، وكأنها كان يجب أن تكون قديسة، تغني وتذهب بعد الغناء إلى محراب أو قلاية!! لم ينس الناس صوتها البديع وأغنياتها الجميلة بكلماتها وألحانها التي تهز الوجدان وتسري مع الدماء في الأجساد كأنهار عذابٍ. يتذكرون منديلها الشهير وتسريحتها الأشهر المسماة "السد العالي" والميكروفون المتدلي من آعلى، وإشارات الأيدي وعلو القامة مع صداح الموسيقى.. كما لم ينسوا وجودها على الجبهة وحفلات دعم المجهود الحربي. كوكب الشرق.. ثومه كما ندللها.. دفعت ضريبة الوطنية كاملة، لذلك سيتذكرها الناس وينسون من لم ينفذ إلى جوهر روحها كإنسانة..  لها سماتها الشخصية وحياتها الخاصة التي يصيب فيها الإنسان أو يخطيء.. ولا تنتقص منه شيئا.

يمتليء المسرح بالجمهور، سعيًا للاستمتاع بفن وصوت وغناء على الحجار، الذي صمد طوال سنوات في مواجهة ألوان و "سكك" من الغناء.. كثيره غث وقليله سمين.. بقيت فيه أغنياته كما بقيت أغاني محمد منير.. "بعض" أغاني الحلو وفؤاد ومنيب وغيرهم بقيت.. لكن لو أن مطربًا آخر أعلن عن حفل له ليغني فيه أغاني تترات المسلسلات التي غناها على مدى سنين، لوصفوه بالجنون، ولماذهب أحد اليه ولو بيعت كراسي المسرح بأقل من ثمنها. لكن المسرح الكبير بدار الأوبرا الممتليء عن آخره، كان شاهدًا بكل جنباته ومقاعده وإضاءته وفرقته الموسيقية، بالإخراج المدهش للمسرح وشاشة العرض التي تطرق الوجدان، مذكرة بمراحل نضج ونماء وازدهار على الحجار (٧٤ عاما) كانت تشهد بذلك. الناس في غمرة كل هذا العذاب والبؤس، الذي يلاحق الفن والإبداع والصحافة والسياسة وشتى مناحي الحياة، لم تنس أنها يمكن ان تغسل همومها على ضفاف حنجرة على الحجار، فجاءوا ليسمعوه وهو يغني أغانيه القديمة. في قادم الأيام سنحتشد جميعا لنسمع جديده الذي أبلغني أنه يعمل عليه حاليًا. جمهور الحجار الذي تحدى غزارة الأمطار، لم ينس اللحظات الجميلة التي عاشوها على ضفاف صوته وإحساسه الذي يشعر به كل من يسمعه.. حالة تماهي وتوحد وتجاوب مذهلة بين مشاعر  الجمهور وإحساس الفنان. هل ينسى الناس كل هذه اللحظات البديعة؟

المناضل والمثقف البورسعيدي سيد كراوية

لاينسى المصريون مذابح بحر البقر وأبو زعبل وقانا ومقتل الطفل محمد الدرة.. حتى إذا نسى العدو الصهيوني الهولوكست التي هي محل تشكك من كبار الكتاب والمبدعين والسياسيين من مختلف أنحاء العالم، فنحن لن ننسى.. لن ننسى لصًّا مثل "سبس" - يقول سيد كراوية أن البورسعيدية ينطقونه اختصارًا لفرديناند ديليسبس  .. قاهر شعبنا العظيم ، ومستخدمه بالسخرة في حفر القناة.. والذي يدعى المدعون اليوم انه كان سببا في بناء بورسعيد كمدينة عالمية ويريدون رد الاعتبار اليه بإعادة تمثاله إلى موقعه، في مدخل القناة بعد أن أزاله البورسعيدية من مكانه ورموه في المتحف.

إقرأوا  سيد كراوية.. مناضل قديم عتيد يذكرنا و أهل بورسعيد الباسلة بتاريخهم المجيد، وبشهدائهم في ميادين الكرامة و الحرية. كتب يقول في "الذكرى ال65 لأعظم عملية فدائية ضد العدوان الثلاثى على بورسعيد بعد استشهاد حموده الذى صار قميصه المشرب بدمه علما لبورسعيد.. العلم الأحمر للمدينة الباسلة المقاومة للعدوان.. والمجد للأحمر دائما. وحتى لاننسي - بمزاجنا أو رغما عنا - يذكرنا بـ" عملية اغتيال قائد مخابرات قوات الإحتلال ويليامز على يد الصبى الصغير السيد عسران. السيد عسران صاحب الصورة (صورته منشورة على صفحته و مع هذا المقال) فى عملية فيها كل اختزال لقدرة الانسان العادى على التفكير، وسعة الحيلة ليتمكن من قتل واحد من أهم قوات الاحتلال، ثم الافلات التام، ونكاية فى رجال المخابرات ، لف لفة جاريا ثم عاد الى مكان العملية والضابط مضرج بدمه ليشاهد نتيجة عمليته، ويملأ عينيه بمنظر ضحيته محمولا جثة هامدة.. السيد عسران شقيق شهيد مرت على جثته دبابات الاحتلال وهى تعبر شارع محمد على قادمة من البحر، والعملية طبعا لاتخلو من دافع الثأر لأخيه. ظل السيد عسران بحكم التاريخ، وبحكم أنه ظل حتى أصبح شيخ فدائي بورسعيد 56، ظل متشربا بمعنى"الوطنية المصرية" مدافعا عن مفاهيمها، فكان شريكا فى كل معاركها الوطنية معنا، مشاركا فى الحملات الانتخابية لإنجاح البدرى فرغلى.. لقد أعطاني الفخر بأنه صديقي.

ويعرج عمنا كراوية على موضوع ديليسيبس فيكتب:  أصر (السيد عسران) أن يكون معى فى مقابلة للدكتور ريمون عندما كان رئيسا للإليانس (الاتحاد الاسرائيلي العالمي، وهو منظمة يهودية دولية مقرها باريس أنشيء عام ١٨٦٠لحماية حقوق اليهود حول العالم) لكى نستفهم منه عن موضوع ديليسيبس وإن كان للإليانس دور أم لا.. كان (عسران) بيركبه العصبى لما يسمع سيرة مطالبة عودة التمثال.. رجل من الرجال الذين يستعصون على النسيان .

الثائر البورسعيدي السيد عسران

هكذا يذكرنا سيد كراوية بشهيد يستعصي على النسيان، ومن هنا أكتب عن رجل آخر في زماننا ودعناه الجمعه الماضية وتقبلنا فيه العزاء الحار يوم الاثنين الماضي.. هذا الرجل هو محمد هاشم الكاتب والمثقف والناشر مؤسس دار نشر ميريت، الذي خرجت لوداعه جماهير غفيرة من شعبنا، لتقول له لن ننساك ياهاشم.

وتماما كما يكتب سيد كراوية :

من هؤلاء الذين بذروا المحصول ، وكان صديقى

كل الأبطال

الذين بذروا هذا المحصول

عميقا تحت الأرض

سوف يتوهجون

مثل شموس يوم جديد.

كان محمد هاشم صديقي.. ومحصوله وفير.. وما فعله المحبون والعارفون بفضله وقيمته كان أبلغ درس من الرجل الذي مات.
--------------------------------
بقلم: محمود الشربيني


مقالات اخرى للكاتب

رشقة أفكار | درس الرجل الذي مات !