18 - 12 - 2025

لغة الضاد.. رحلة الارتقاء بالذات

لغة الضاد.. رحلة الارتقاء بالذات

يقولون إن لغة المرء هي مرآة روحه، ومستودع فكره، وعنوان هويته التي يطل بها على العالم، وكلما تعمقنا في بحور اللغة العربية، وجدنا أنفسنا نرتقي فوق رتابة الحديث اليومي وعشوائية الكلمات العابرة..

 في الثامن عشر من ديسمبر، حين يحيي العالم ذكرى اعتماد العربية لغة رسمية في أروقة الأمم المتحدة، نحن لا نحتفي بمجرد أداة للتفاهم أو وعاء للمعلومات، بل بكيانٍ حي يمنح صاحبه وقاراً وهيبة لا تخطئهما العين، وبميراثٍ حضاري جعل من الكلمة أمانة عظمى، ومن البيان سحراً وجلالاً يخلب الألباب..

فاللغة العربية ليست مجرد قواعد جافة تُحفظ، أو قوالب إعرابية جامدة تُلقن، بل هي في جوهرها رحلة صعود مستمرة نحو التميز الإنساني؛ فمن صان لسانه صان فكره، والمرء حين يحرص على سلامة لغته ورسم حروفه، هو في الحقيقة يحرص على استقامة شخصيته وثبات منطقه، إذ كان أسلافنا يدركون بعمق أن "اللحن" أو الخطأ في اللغة ليس مجرد هفوة عارضة، بل هو خدش في مروءة الإنسان ورصانته وصورته أمام المجتمع، فكيف إذا صار هذا اللحنُ سلوكاً كتابياً معتاداً يزاحم الأصالة في ديارها؟

لقد مضى أكثر من عقدين من الزمان حين كان أساتذتنا يحذروننا من أن اللحن في اللغة قد أضحى ظاهرة تستحق الالتفات، فإذا كان هذا التحذير قد أُطلق قبل عشرين عاماً، أي قبل أن يتسع بيننا فضاء الإنترنت وتجتاحنا موجات التواصل الاجتماعي، فماذا عسانا نقول اليوم؟ 

إننا نعيش في عصرٍ أضحت فيه اللغة السليمة خطأ في اللحن، بدا ذلك جليًا بعد أن فتحت منصات التواصل نوافذ شاسعة نضحت بكل ما هو غث وضحل، حيث انهمر سيلٌ من الكتابات المشوهة التي تفتقر لأدنى معايير الدقة، حتى اختلط الحابل بالنابل، وصرنا نرى منشورات لقامات كان يُفترض بهم أن يكونوا حراس الثقافة وسدنة الحرف، وهي تعج بأخطاء بدائية لا تليق بمكانتهم ولا بهيبة اللغة التي يكتبون بها. 

من المحزن حقاً أن يغيب في عصرنا هذا أبسط قواعد الرسم الإملائي، فيتعثر الكاتب في التفريق بين التاء المربوطة والهاء المتطرفة في بيان رسمي، أو تسقط همزات القطع والوصل من نصوصه كأنها زوائد لا قيمة لها، وكأن لغتنا العظيمة التي وسعت آفاق الإعجاز ضاقت بكلمات معدودات يسطرها مسؤول لجمهوره..

 هذا التراخي في الكتابة لا يعكس مجرد ضعف تعليمي عابر، بل زهدٌ مقلقٌ في الوقار اللغوي الذي هو جزء أصيل من هيبة المنطق والسمت العام، وبقدر ما يحترم الكاتب لغته، تمنحه اللغة من وقارها جلالاً ومن سحرها تأثيرًا.

وفي خضم هذا التراجع، تبرز أحياناً أصوات من محبي العربية في الأقطار الشقيقة، ومنها بعض الانتقادات التي قد تبدو قاسية لكنها نابعة من غيرة ومحبة، كتلك الملاحظات التي تشير إلى تراجع إتقان الفصحى لدينا، لا سيما في الأوساط الفنية التي تملك التأثير الأكبر على الوجدان الشعبي..

ورغم أن مصرنا كانت ولا تزال منارة للغة العربية، وقبلةً للأدباء والشعراء، وموئلاً للأزهر الشريف الذي حفظ لسان العرب لقرون، فإن سيطرة العامية المفرطة وتوغلها في البيانات الكتابية والخطابات الإعلامية، بل في المسلسلات التاريخية، كل ذلك أوجد نوعاً من "الاغتراب اللغوي" الذي جعل الفصحى تبدو في أعين البعض لغة للمناسبات فقط..

هذا العتاب، وإن كان يمسنا في الصميم، يجب ألا يُؤخذ بمحمل هجومي، بل نعده تذكيرًا بمسؤوليتنا التاريخية؛ ونحن مطالبون اليوم بردم هذه الفجوة بين لساننا الدارج ولغتنا الأصيلة، ليس من خلال التعقيد، بل عبر "الفصحى الميسرة" التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتثبت أن الكتابة بلغة مستقيمة هي فعل استحقاق يومي، يرفع من شأن صاحبه ويجعل لكلامه وقعاً يلامس العقول والقلوب معاً.

التعمق في دراسة العربية وقراءة نصوصها البليغة يمنحان الإنسان قدرة فريدة على صياغة فكره بوضوح وقوة، ويحميه من الانزلاق في متاهات التأويل وسوء الفهم التي تسببها الكتابة الركيكة.. إذ إن اللغة العربية تمتلك نظاماً اشتقاقياً وجمالياً لا يضاهى، وهي قادرة على استيعاب كل جديد إذا ما وجدَت من يتقن فن الكتابة بها، والدفاع عن لغتنا اليوم هو في جوهره دفاع عن مستقبلنا؛ لأن ضياع اللغة يعني ضياع القدرة على التفكير المنطقي السليم وتفكك أواصر الهوية.

وحين نرى تلك المساحات الرقمية تفيض بالغث من القول والمنكسر من الحروف، يجب أن ندرك أن الحل ليس في الانعزال، بل في تقديم البديل الراقي، وفي إيجاد مبادرات تحتضن الجمال وتيسر المعلومة اللغوية بأسلوب يحبب الأجيال الجديدة في لغتهم الأم..

 نحن بحاجة ماسة إلى تحويل سلامة اللغة والكتابة إلى "ثقافة عامة"، بحيث يشعر الكاتب بالخجل من الخطأ الإملائي كما يشعر بالخجل من الخطأ في المعلومة، وبحيث ندرك جميعاً أن الرقي الحقيقي يبدأ من انضباط الحرف وقدسية الكلمة المكتوبة.

ختاماً، هذه ليست دعوة إلى الانكفاء على قواعد النحو بصورتها المدرسية الجافة، بل دعوة صادقة لاستعادة الوعي بجمال الكلمة وتذوق جلال البيان، وإدراك أن العربية ترفعك حينما ترفعها، وتصونك حينما تصونها، فالاستثمار في اللغة هو استثمار في الذات أولاً وأخيراً، ومن ملك ناصية البيان ملك القدرة على الإقناع والتأثير، ومن تذوق بلاغة النصوص وفصاحة البيان صفت سريرته وجزل منطقه..

 وليكن يوم الثامن عشر من ديسمبر من كل عام فرصة لنا لننفض عن لساننا وأقلامنا غبار العشوائية، ولنجدد العهد مع لغةٍ تليق بعقولنا وتاريخنا وطموحاتنا، لأننا نستحق أن نتحدث ونكتب لغة بليغة، ونستحق أن يكون محتوانا الرقمي مرآة لحضارةٍ علمت العالم كيف يكتب وكيف يبدع، فالعزة في فصاحة اللسان، والرفعة في صدق البيان، ولنكن دائماً ممن يحفظون للأمانة اللغوية حقها، ليبقى لساننا العربي حياً، نابضاً، وعصياً على الانكسار في وجه موجات التسطيح والغثيان اللغوي المعاصر.
-------------------------------
بقلم: عزت سلامة العاصي

مقالات اخرى للكاتب

لغة الضاد.. رحلة الارتقاء بالذات